كانت القبيلة في ليبيا ولا تزال المكون الاجتماعي الأهم، فعلى الرغم من كل الكلام والقوانين والادعاء أيضًا بأننا نبني مجتمعًا حديثًا، يخرج بنا من أسر القبيلة وتخلفها فإننا نكتشف وفي كل مرة أننا قبليون حتى العظم وأن علينا أن نبدأ دائمًا من جديد في الكلام وإصدار القوانين والحملات الإعلامية للخروج من مأزق القبلية والدخول للعصر.
القبيلة في ليبيا ظلت وحسب الشعار الأردوغاني الذي لا يتوقف النشطاء والمثقفون والجذريون عن ترديده” دولة عميقة ” بكل أسف تهزم دائمًا شعارات وقرارات ودعايات اليمين واليمين من الكمبرادور “التابع” إلى اليمين المتطرف الديني والفاشي.
منذ العصر التركي القديم وحتى الحديث، ظل الولاة والمثقفون والسياسيون والثوار يصرخون مصدعين الرؤوس ضد القبيلة وظلت القبيلة ثابتة راسخة الجذور بكل أسف، تستمع بهدوء لكل ذاك الضجيج وتنتظر عودة الصارخ ضدها إلى حضنها مستسلمًا تائبًا عن هرطقاته ضدها!!
كانت محاولات الدولة التركية لسحب البساط من تحت القبيلة وأخذ دورها في ليبيا قد باءت بالفشل ودفعت تركيا أثمانًا باهظة في محاولاتها تلك، واضطرت إلى التعامل مع القبيلة الليبية بالاحتواء والاستيعاب والمهادنة وإن اضطرت إلى المواجهة معها، فبقبائل أخرى حليفة لها، لم تستطع إمبراطورية الترك أن تضعف “القبيلة العميقة” أو تقضي عليها.
الطليان دخلوا ليبيا وهم ينوون تغيير المجتمع الليبي إلى مجتمع يناسب مخططاتهم الاستعمارية، عرفوا جيدًا المؤسسة الأقوى في ليبيا في ذاك الوقت وعملوا على توظيفها لمساندتهم من أجل تحقيق هدفهم ذلك، كان الآنثربولوجيون وعلماء الاجتماع والتاريخ قد درسوا القبيلة الليبية وعرفوا مكامن قوتها وضعفها ووجدوا ألا مفر من الحفاظ عليها واستخدامها ونجحوا إلى حد كبير في الغرب الليبي، حيث كانت القبائل قد أخذت شكل الممالك والدول مما فتح الطريق للمخطط الإيطالي واشتعل الصراع بين تلك القبائل أو الممالك، وسهَّل الأمر للإيطاليين فيها ليقضوا على الممالك القبلية منتفخة الريش ريشة ريشة!!
في الشرق الليبي لعبت السنوسية الدور الأهم في توحيد تلك القبائل ومنع التصدع بينها ووجهتها ضد الغزو دون أن يخلو الأمر من بعض الخيانات بالتأكيد.
حاولت مملكة إدريس أن تؤسس الدولة الحديثة لتكون بديلاً للقبيلة ولم تحقق نجاحًا مهمًّا، فظل البرلمان للقبيلة، والحكومة لا بد أن تكون مدعومة بالقبيلة أيضًا.
القذافي أكد القبيلة وازداد دورها في حكمه قوة، ووصل الأمر إلى حرمان بعض القبائل من العمل بالجيش والأمن وبعض الإدارات ومنحها لقبائل أخرى.
القبيلة بعد فبراير وعلى الرغم من كل الكلام والشعارات والقرارات والقوانين عادت إلى المشهد بقوة أكثر وسلبت من الدولة أغلبية أدوارها، بل سحبت منها مبرر وجودها، أي إدارة الموارد وعلى رأسها النفط، وصار لها جيوش وناشطون سياسيون وقنوات تلفزيون وجرائد، الجديد اللافت للنظر الآن هو تحول المدن إلى قبائل عميقة بعد أن كانت مدنًا هشة، فكم من المدن أو التي كنا نسميها مدنًا باتت قبائل بكل ملامح وأشكال وأمراض القبيلة، تطبق قوانين القبيلة في التعيين والغناء ومخالفات المرور وتسجيل المواليد وإمامة المساجد والعمل بالمسارح والتلفزيونات إلخ إلخ.
القبيلة وبكل أسف “دولة عميقة ” في ليبيا، ولن نخرج من سجنها دون إقناعها بالتفكك والذوبان وإلى حد الآن لا أحد منا يريد.