مخطوط: محطات زمنية للأديب عيسى أيوب الباروني
طيوب النص

محطات زمنية

الذكرى الـ24 للشاعر الليبي عيسى أيوب الباروني

أولى المحطات التي خطها الأديب في مذكراته التي أسماها ب “بمحطات زمنية”…

يقول الأديب:

في أحد أيام سنة 1931 رأيت النور حسب ما جاء في وثائق بلدية نالوت ولقد اجمع أقاربي الدين سبقوني للحياة بأن والدتي توفاها الله بعد ميلادي بتسعة أشهر فقط وهي نفس المدة التي قضيتها في رحم والدتي وبالطبع فإنني لم أعرف أمي وجها لوجه رغم أنها حملتني تسعاً وأرضعتني تسعاً والتصقت بها ثمانية عشر شهراً جنينا ثم رضيعا .

ليس أقسى على الإنسان من أن يصبح يتيماً في مثل هذه السن المبكرة جداً و حسب ما علمت بعد أن أدركت سن التمييز ثم الرشد ثم الشباب أن والدي تدبر أمر تغذيتي من حليب بقرة كان يملكها و ثبت أيضا أن أخت جدتي “سعيدة بنت الحاج سعيد يحيى الباروني” درِّت علي اللبن من ثدييها العجاف نظراً لتجاوزها في ذلك الوقت سن الخمسين و تبنتي هذه العجوز التقية الورعة حتى خلت أنها أمي الحقيقية و لكن علمت ان الأمر يختلف و أنا في سن التمييز بأن والدتي ماتت مند سنوات عديدة و أصبحت السيدة “سعيدة سعيد يحي الباروني” هي أمي الثانية ..

لم أدرك وانا صبي صغير لم يتجاوز السادسة كيف تكون لي والدتان في نفس الوقت وفي الواقع ليس لي حتى والدة واحدة !! ولكن أمي “سعيدة” هي التي أعرفها وهي التي أعترف بها كأم رغم إن اعترافي بوالتي الأصلية أم واجب ومحتوم بعد تجاوزي سن التمييز وقد عاشت أمي “سعيدة” رحمها الله حتى بلغت سن السادسة عشر حين بلغتُ سن السادسة عشرة حينها لاقت ربها سنة 1947 ميلادية..

حتى كتابة هذه الكلمات … لم أعرف كيف درت أمي “سعيدة” اللبن وأرضعتني … هل كان ذلك لأيام معلومة؟ ام لأشهر معدودة؟ لا أحد من الذين من قبلي خطر علي أن أسأله هذا السؤال رحمهم الله جميعا وهذه الحادثة العجيبة التي أكدها لي من عاصروا أمي “سعيدة” لا شك في صحتها مطلقا .. حادثة عجيبة لأنها “عجوز” لم تنجب ودخلت سن اليأس مند سنوات طويلة..

وحتى أشبع فضولي في معرفة سر هذه الواقعة من الناحية العلمية قرأت رسالة الدكتوراة للأستاذ “عبد الله جنيدلة بعنوان “الرضاعة” لم أحد مثيلا لمثل هذه الحادثة في دراسته وفاتني مع الأسف أن أخد رأيه في هذا الموضوع وهذا محل استغراب كون رسالة الدكتوراة الضخمة خلت من الإشارة إلى مثل هذه الظاهرة..

الشاعر الليبي عيسى أيوب الباروني
الشاعر الليبي عيسى أيوب الباروني

سواء كان هذا اللبن الذي ذرته “أمي” سعيدة كان كافيا لتغديتى أو لم يكن كذلك فإنه في نظري أكثر من كاف وأكثر من كرم وأعلى من مرؤة وأثمن من جواهر الدنيا كلها… وما قيمة جواهر لا أمتلكها؟

لقد وجدت في صدر هذه السيدة البارة الرحيمة التقية الورعة رحابة اوسع من رحابة القصور العظيمة ولن انسى حتى آخر دقائق العمر “أمي سعيدة” ونسيان أفضالها ومآثرها وحبها وحنانها يعني الجحود بعينه وحاشا أن أكون كذلك طالما ظللت حياً واتنفس .. لقد أرضعتني هذه السيدة حب المرؤة والفضيلة وكل الصفات التربوية التي يعجز أساطنة التربية الحديثة أن يمدوني بمثلها .. قيم عظيمة جعلت منها نبراسا في كل مراحل حياتي .. وأضيف إلى هذه السيدة “أمي سعيدة” عطف جدتي (أختها) ولكنى في الواقع لم أسعد كثيرا بهذا العطف من جانبها لأن الأجل قد توفاها قبل بلوغي الثامنة وتلتها “أمي سعيدة” بعد سنوات..

كانت نشأة هاتين السيدتين الفاضلتين في حضن والدهما عالم الدين المشهور في الجبل ” الحاج سعيد ابن يحيى بن أيوب الباروني” الذي نشر العلم في الجزء الغربي من جبل نفوسة وقد ترك شيخنا هذا مخطوطات قيمة جدا تم فقدها ولم يعرف مصيرها حتى كتابة كلماتي هذه .. كان “الحاج سعيد” فقيها وواعظا في كاباو ونالوت ويعتبر من رواد العلم في جبل نفوسة. وقد عاصر العالم الجليل الشيخ عبد الله الباروني مؤسس المدرسة البارونية في يفرن وكلاهما ساهم مساهمة فعالة في نشر العلم والمعرفة في مدن وقرى جبل نفوسة..

كان “الحاج سعيد” حريصا على تعليم بناته القراءة و الكتابة و علوم القرآن و الفرائض الأساسية و مما يروى عنه رحمه الله أنه كان مثابرا على أداء هذه الرسالة مع بناته و لكن في إحدى السنوات صادف أن زار البلدة “كاباو” موظف “تركي” يعمل كجابي ضرائب و لما كانت حجرة استقبال الحاج سعيد ذات الطراز الفريد مقارنة بالدور الأخرى فقد رأى أهل البلدة أن تكون هذه الحجرة ذات المصاطب المتعددة مقراً لهذا الضيف “التركي” و صادف أن فوجئ هذا الضيف “الثقيل” بأن “الحاج سعيد” يعلم بناته القراءة و الكتابة و سور من القرآن الكريم .. فقام هذا “التركي” بتقديم نصيحة إلى “الحاج سعيد” مفادها إن تعليم البنات يشكل خطراً على مستقبلهن لأنه حين بلوغهن سن النضج قد يقدمن على مراسلة الشباب خلسة !! ويجب التوقف عن تعليمهن فورا.. لقد إنصاع “الحاج سعيد” للأسف الشديد لنصيحته !! فنصيحة التركي لا ترد..

وإن أنسى فإنني لا انسى أن “أمي سعيدة” طلبت مني قبل وفاتها بقليل أن أكتب لها بخط عربي واضح آية الكرسي وبعد يومين طلبت مني أن تعرض علي هذه الآية الكريمة وقد حفظتها عن ظهر قلب كان عمري حينها لا يتجاوز العشر سنوات تقريبا .. لقد حفظت “أمي سعيدة” الآية لأنها لم تنس مبادئ القراءة والكتابة التي تعلمتما من اباها “الحاج سعيد” …

لقد كان غريبا أن ينصاع “الحاج سعيد” لنصيحة ذاك “التركي” الجلف وهو الفقيه الورع !! أقول ذلك للمرة الثانية…

كان وفاة جدتي تم “أمي سعيدة” حدثا قاصما بالنسبة لي .. فبعدهما شعرت بالمرارة والغبن والتعاسة والعوز والحيرة وأصبحت فريسة للآلام النفسية نتيجة فقدهما فقد كانتا “رحمهما الله” أكبر مصدر من مصادر العطف والشفقة والحنان والود والدفْ والحب وكل المثل الإنسانية النبيلة .. لقد كان والدي حينذاك لا يزال حيا يرزق وكان يحاول قدر استطاعته أن يعوضني الحب والعطف والحنان الذي افتقدته برحيل “أمي سعيدة” .. لقد كان والدي رحمه الله عطوفا بارا كريما لكنه كان يعجر في أحيانا كثيرة أن يدخل السرور والطمأنينة والسعادة إلى قلبي خاصة وأن ظروفه المادية كانت دون الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي خاصة في السنوات العجاف التي كانت تتوالى أحيانا كما يتوالى البلاء المزمن خاصة خلال الحرب العالمية الثانية ..

أما نشأتي فكانت نشأة طفل في محيط قروي يعتبر نموذجا في التقوى والورع ومخافة الله وخاصة داخل أسرتي وأقاربي .. لا موبقات ولا منكرات .. لا دعارة ولا تدخين .. هذا هو المجتمع الذي نشأنا فيه في أحضان “بلدة كاباو” التي أصبحت الآن مدينة متحضرة وكأنها قطعة من سديم انفصلت عن أصلها … كان الكذب جريمة وسوء التصرف قلة أدب والغش عار وفضيحة ولا مكان إلا للشرف والفضيلة وحسن السلوك وطاعة الله والصبر على قسوة الحياة..

كانت مشكلة مجتمعنا البسيط تكمن في تدني مستوى الحياة في السنوات العجاف وارتفاعها بدرجة حادة في مواسم الخير وسنوات الأمطار .. وأعز الأمطار على الصحراء وعلى قمة جبل يشرف على صحراء وهى “الجفارة” و “الجفارة” إذا غمرتها السيول تصبح جنات خضراء سريعة الزوال بانقطاع الأمطار..

لقد كانت الزراعة الموسمية العمود الفقري لحياتنا أما الصناعات اليدوية فلا يوجد منها إلا البسيط تتمثل في نسج من مادة خام الصوف والشعر والحلفاء حيث كانت صناعة الصوف عبر النول المنزلي تكفي للاستهلاك المنزلي وربما تفيض وتباع .. ونتيجة لسوء التغذية بصفة عامة في هذا المجتمع الصبور المجاهد فإن نسبة وفيات الاطفال عالية جدا لدرجة أن الاسرة التي تنجب خمسة أو ستة أطفال لا يعيش منهم إلا الربع أو أقل في أحسن الظروف .. لا إسعاف ولا دواء وألبسة ثقيلة تقي من زمهرير شتاء الجبل القارص أو ألبسة واقية من صيفه القائظ فاللباس شتاءً هو هو .. قميص من كتان أبيض بدون لباس داخلي !!

ومن أقدار الله أن أصاب بمرض “القرع” إصابة بليغة و ذلك نتيجة اللعب مع ابن جارنا المصاب بنفس المرض و لكن بحالة حادة حيث كنت أشعر بآلام حادة نتيجة ذلك حتى أثر على صفاء دهني الشيء الذي جعلني أميل إلى الكآبة دائما و كنت لا أشكو لوالدي إنني أتألم حرصا على عدم إزعاجه ذلك لأنني لا أتحمل أن أرى أي أثر من آثار الكدر على وجهه لأنه ببساطة كان موئلي الوحيد في الحياة بعد فقدان “أمي سعيدة” و جدتي و والدتي قبل ذلك … و من المؤسف أن يعالج هذا المرض معالجة سلبية زادت من رقعته علي فروة رأسي و السبب أن سكين الحلاقة كان يوزع المرض على رأسي بالعدل و القسطاس بعد أن يعبث به أشد العبث حيث أن حسب الاعتقاد السائد أن الحلاقة “على الزيرو” تخفف من هذا الداء الوبيل و هو اعتقاد خاطئ..

وفر لي بعض المقترحين وصفات شعبية قد تساعد في العلاج من داء القرع لدرجة أن رأسي أصبح بمثابة حقل تجارب لهذه الوصفات الغريبة العجيبة” والتي سأسرد منها ثلاثاً لن أنساها أبداً:

الوصفة الأولي:

نصحني بعضهم بإحراق حية بعد قتلها حتى تتفحم تم يجمع رمادها ويهرس جيدا تم خلطها بزيت الزيتون ويوزع الخليط على فروة الرأس ويربط بشريط (لا وجود لأدوية معقمة) .. رغم أنها لم تكن مؤلمة فإنها لم تجدِ نفعاً رغم تكرارها وقذارتها !!

الوصفة الثانية:

العلاج بواسطة أوراق شجيرة صخرية منتشرة في الجبل .. أعتقد أنها (العبار) أو (تمدرارت) بلهجة أهل الجبل .. وبعد جمع كمية كبيرة من الأوراق “المُحرقة” وطحنها “لها صفة حارقة بدرجة لا تُحتمل” وتجهيزها .. وبمجرد أن وضعت هذا العجين على رأسي أطلقت صرخة حادة نتيجة للألم وسقطت أرضا كجديٍ ذبيح وأسرع المحيطون بي ونزعوا الضمادة الملعونة واكتفيت من الألم بعودتي سالما إلى وعيي ثم غسل رأسي على الفور..

الوصفة الثالثة:

كانت وصفة سخيفة ومقززة في وقت واحد لدرجة تدعو إلى الغثيان !! أما مكوناتها فكانت تتثمل في 30 إلى 40 خنفساً من النوع المسمى شعبيا (زنزانة القايلة) وهو نوع من الحشرات التي ترسل صوتا شبيها بالجرس خصوصا في فصل الصيف وأثناء القيلولة، قمت بجمع هذه الخنافس بالتعاون مع أقاربي وتم سحقها وهي حية حتى أصبحت عجبنا لزجا ورخوا .. ولا أدري كيف أطرقت رأسي لأجعله محلا لهذا العجين القدِر المقزز وجعلت منه ضمادة تلف كل رأسي .. ولكن الغريق يستعين بقشة!!!

والواقع أن قصة القرع التي لازمت طفولتي وحطمت معنوياتي وصحتي حتى مطلع شبابي عندما كنت طالبا في مدرسة الزاوية الثانوية حيث كنت طوال سنواتي الدراسية اتهرب من الفحوص الطبية الموسمية التي تجرى مرة في السنة في المدارس حتى لا ينكشف أمري أمام زملائي وكنت حريصا على أن البس غطاء للرأس حرصي على الاحتفاظ بجوهرة ثمينة وأمنع أي شخص “ولو بالقوة” أن ينزع هذا الغطاء حتى وإن كان على سبيل الدعابة ..

إن طفولتنا كانت شبه بائسة رغم ما يبدله أولياء أمورنا وبأقصى ما يمكنهم من العناية والاهتمام والحض على طلب العلم في ظروف معيشية صعبة للغاية .. كانت زوجة أبي تعاملني كفرد من الأسرة له التزامات وعليه واجبات والتزامات وحق الخدمات كالطهي والغسيل وما إلي ذلك من أنماط الحياة البسيطة رغم أنها “بطبيعة الحال” ليست في مستوى حنان الأم ولطفها وكانت نفسيتي تتفتح ومعنوياتي تتحسن بصورة كبيرة وأشعر بشيء من الحبور والسعادة المؤقتة عندما أرى زوجة أبي هاشة باشة وباسمة الثغر مهما كان سبب ذلك .. إن قسوة الحياة تجعل من لحظات الود والصفاء كجزر متفرقة في محيط هائج أو واحات متباعدة في صحراء جرداء وكنت كثيرا ما أشعر بمرارة لا تطاق عندما ينشب الخلاف بين أبي وزوجته ولا أشعر بالراحة حتى تهدأ الأمور بينهما “ولو مؤقتا” ..

إن المناسبات الاجتماعية كالأفراح والأتراح رغم بساطتها وطقوسها العفوية وكذلك مناسبات الأعياد الدينية كعيد الفطر وعيد الأضحى والمولد النبوي الشريف كانت مناسبات يٌمن وبركة ويسر حيث كنا ونحن أطفالا نجد في هذه المناسبات شيء من الفرح والتسلية وأكلات مجانية معقولة ومتنوعة ذلك أن قسوة الحياة تجعل من هذه المناسبات منارات تضئ أجواء هذه المجتمعات الموغلة في البساطة والمعاناة والتلقائية الساذجة أحياناً .. كانت حياتنا تعتمد كليا على الاكتفاء الذاتي باستثناء الحاجة إلى الأقمشة والسكر والشاي وكنا نتباهى بالقمصان البيضاء المصنوعة من أقمشة ذات الجودة الرديئة أو من قماش أكياس الدقيق النادرة حيث كان يتحفنا بها أولياء أمورنا في مناسبات قليلة جداً وإن كانت المناسبات الاجتماعية المشار إليها تشكل لحظات محببة فإن المواسم الزراعية الموزعة على فصول السنة كانت مناسبات تبعت على السعادة بالنسبة لنا كأطفال حيث كانت تلك المواسم تشكل العمود الفقري لنشاطاتنا الاقتصادية المتواضعة خاصة في السنوات الممطرة ..

ففي فصل الخريف وأول الشتاء تنزل الأمطار وأحيانا تتخلف .. ففي السنوات الممطرة يكون موسم الحرث ناجحا وعطاؤه أكيداً نظرا لقلة الآفات الزراعية في تلك البيئة النظيفة رغم وجود خطراً محتمل يتمثل في حدوث عواصف رعدية محملة بالبرد هذه العواصف قد تسبب تلفاً كاملا أو نسبياً لمحصول الشعير .. ومن حسن الحظ أن هذه العواصف التي تحدث في غالبا في بداية الصيف لا تحدث سنويا وإن حدثت لا تأخد إلا مساحات محدودة ولا تكون عامة شأن طبيعة العواصف الرعدية الشتوية..

كان موسم حرث الحبوب هو الرافد الرئيسي لمواسم الاقتصاد الزراعي .. فالاعتماد كان على الشعير بالدرجة الأولى ويليه القمح فهما يغنيان عن أي نوع آخر من الغداء رغم عدم وجود أفران للخبز مثل وقتنا هذا وكانت الأسواق تتثمل في هاتان السلعتان بدرجة كبيرة بالإضافة إلى الزيت والصوف والتمر والتين المجفف..

في آخر فصل الشتاء يستعد الناس لموسمين هامين.. الاول هو موسم جني الزيتون وقد يمتد هذا الموسم إلى أوائل فصل الصيف أحيانا .. وسبب ذلك أن زيتون الجبل بخلاف زيتون المناطق الساحلية الرطبة يمكن تركه تحت الشجرة حتى لأعوام بدون أن يتلف إلا إذا تعرض للسيول أو المواشي أو الجردان البرية.. أما الموسم الثاني في فصل الشتاء فيقع في آخره ويتمثل في ملاقاة الربيع لمدة ثلاث أشهر تقريبا.. حيث تخرج القوافل محملة بالنساء والأطفال والزاد وخيام الشعر فيما أشبه بعملية نزوح جماعي إلي خارج البلدة في اتجاه الجنوب (الظاهر) وبمسافة تتراوح بين 25 كيلو مترا إلى ال 100 حسب المواقع التي تكثر فيها الأعشاب..

قبل عملية الرحيل “أي النزوح إلى الظاهر” يقوم الرجال بتحضير وتجهيز الخيام “بيوت الشعر” .. وعملية التحضير والتجهيز كانت لها طقوسا معينة حيث يتم طرح تلك الخيام في ساحة البلدة ثم يتم ترقيع وإصلاح الأجزاء المتمزقة والمعطوبة منها وتيمناً بذلك يتم نثر تمار التين المجفف والتمر والزيتون المجفف على الخيم المفروشة بعد إتمام العمل وهى لا تزال مفروشة على الارض فيتسارع الاطفال لالتقاط تلك الثمار ثم يتم نصب الخيام لغرض التجربة والمعاينة..

أما فصل الربيع فهو فصل البهجة والسرور .. حيت المراعي الخضراء والهواء العليل الطلق والاستمتاع بالألبان ومشتقاتها وجز الصوف في احتفالات بهيجة تقدم فيها أجود التمور معجونةً ب “البسيسة” وفى هذا الفصل أيضا يتم استخراج أجود أنواع السمن من ألبان الضأن والماعز … ويقوم أرباب الأسر الذين اتفقوا على قضاء فصل الربيع معاً بنصب خيامهم قرب المرعي الذي اختاروه كموقع ويسمى هذا التجمع بالنجع .. وعادة ما يسود الهدوء والوئام والانسجام بين العائلات رغم وجود بعض من الحالات النادرة من الخصام والعراك بين أفرادها تنتهي عادة بالصلح والتسامح … وتستمر فترة هذا الموسم الجميل حتى بداية فصل الصيف أحيانا..

أما في فصل الصيف فهو موسم التين .. وعادة ما تكون بساتين التين بعيدة نسبيا عن البلدة وذلك بعد حصد الحبوب ودرسها وتخزينها في القصر الكبير الذي يعلو البلدة كمنارة من منارات التاريخ..

إن أشجار التين عطائها وافر في السنوات الممطرة إذا تم الاعتناء بها حسب الأصول الزراعية ومتطلباتها .. ويجفف التين بعد نضجه الكامل بحيث يكون قابلا للتخزين كمادة غذائية استراتيجية ومن الغريب أن مزارع التين تنجح عادة في الوديان العميقة المحرقة في فصل الصيف وعليه فإننا نقضي فصل الصيف في هذه الوديان متحملين أقصى درجات الحرارة التي قد تصل أحيانا إلى ما يقرب الخمسين درجة من أجل أن نستمتع بألذ وأجود أنواع ثمار التين على الإطلاق..

وإذا كان التين المجفف يصلح لأن يكون وجبة غدائية كما يحدث أحيانا فإن التين الطازج لا يشبع جوعا كونه سهل الهضم وبالتالي فإن الشعور بالجوع لا يسده التين الأخضر إلا لمدة محدودة قد لا تتجاوز الساعتين وهذه الفاكهة تستعمل أحيانا كعلاج للإمساك وما على الإنسان إلا تناول عدة حبات من الشجرة مباشرة أثناء الهجير فإن ذلك سيكون أحسن دواء للإمساك دون شك ..

أما فصل الخريف فهو موسم جني التمور حيث تتواجد في الجبل أفضل أنواع التمور البعلية وأشهرها “الكركابي” .. والتمور تشكل موردا اقتصاديا هاما وفي مواسم البلح والتمور تمتد بيادر هذه التمور للتجفيف فوق الأرصفة الطبيعية خارج البلدة مباشرة ومن الجميل أنه لا أحد يتعدى على هذه البيادر حتى الفقراء الذين لا يملكون مثل هذه التمور .. إنها الأمانة والصدق وقلة الجشع والخوف من الله والقناعة والمحبة والود .. ولا أدعي انه لا توجد انحرافات ولكنها لا تقاس لأن نسبتها ضئيلة جدا ..

أما عن الأعياد الدينية فإن الناس لا تنفض بعد أداء صلاة العيد في المسجد إلا بعد أن تطرح المشاكل الاجتماعية التي تهم الناس .. حيث يعلو النقاش ويحتد وتطرح الأفكار والآراء المتناقضة أحيانا دون تحفظ .. ولكن لا ينفض اجتماعهم إلا بعد أن يتم التفاهم على حل جميع المشاكل والاختلافات التي تتبدد بانتهاء النقاش .. فبعد ضجيج النقاش يسود الهدوء الوادع .. و من الأشياء التي لا أنساها أن الجماعة لا تتفرق بعد انتهاء نقاشهم بل تتوجه إلى أماكن معلومة قصد التبرك بالأحياء و الترحم على الأموات حيث تتجه الجماعة إلى منزل جدي حيث يقوم الجميع بتهنئة جدتي و اختها (أمي سعيدة) حيث تتقبلن التهاني محجبات و بأيدي ممدودة تحت اللحاف كما هي السنة و ذلك تكريما لهاتين الأختين ابنتا الولي الصالح الحاج سعيد بن يحيى الباروني الذي سبقت الإشارة إليه ..تم تتوجه الجماهير إلى المقابر لتلاوة الفاتحة و الترحم على الأموات و بعدها يتفرقون لزيارة الأهل و الأصدقاء و الأقارب و الجيران و تقام الولائم البسيطة و شراب الشاي حيث لا مرطبات و لا يحزنون..

وحكايات الطفولة لا نهاية لها:

فهناك العجائز اللواتي يقصصن القصص العجيبة والمخيفة وخاصة في أوقات المساء والليل وهذه الثقافات الشعبية بالإضافة إلى التواشيح في مناسبات الأعراس والأعياد الدينية وما نسمعه من أقاربنا وأولياء أمورنا من وعظ وإرشاد والحث على الخير وحب الناس والتعاون كلها كان لها الأثر الكبير في نفوسنا لدرجة أنه لازمنا حتى مراحل الشيخوخة وسيظل كذلك حتى الممات ..

ومما أتذكره عن طفولتنا أننا نكلف أحيانا بأعمال ومسؤوليات تفوق مستوى أعمارنا وقدراتنا.. ولكن كنا نعتبر أن هذه الأمور أشياء لا مناص من تطبيقها.

كنا أحيانا نكلف برفع كميات من التموين إلى مسافات طويلة تبلغ عدة كيلو مترات أحيانا وقد تضطرنا إلى السير في الموحش في الشعاب والتلال والوديان لقضاء أمر قد كلفنا به أو حمولة يجب علينا نقلها على ظهورنا الغضة أحيانا وفي ظروف الهجير أو البرد القارس أحيانا نهارا كان ذلك أم ليلا..

ومن ذكرياتي أن لنا في مقرنا الصيفي المسمى ب (الخنقة) عينا جارية كلفت والدي وأعمامي جهودا جبارة لشق طريق لها بين الصخور والتلال… والخنقة هي منطقة جبلية عبارة عن ملتقى عدة أودية تحيط بها الجبال من كل جانب حتى تصبح في فصل الصيف مثل الأتون … وتتجمع مياه العين في حوض تم إنشاؤه لهذا الغرض حيث نكلف أحيانا بأن نقوم بالذهاب إلى وادي الخنقة الذي يبعد 15 كيلو مترا تقريبا لتحرير منفد الماء الموجود في قاع الحوض لتنساب منه المياه وتسقى الشجيرات والخضار المتواضع .. وأما القيام بعملية تحرير المياه في فصل الشتاء فيتطلب منك كسر طبقة الماء المتجمد قبل الغوص داخل الحوض وتحرير الماء لأغراض الري بعد أن تنزع ملابسك كاملة ..

إن قصص الطفولة لا تنتهي .. وسيتوالى ذكرها في محطات قادمة ..


عن صفحة: الأديب عيسى أيوب الباروني (على الفيسبوك).

مقالات ذات علاقة

ماذا بقي لي !؟

الحبيب الأمين

حروفي مرتبكة نوعا ما

فائزة محمد بالحمد

معاناة عصية على الفهم

المشرف العام

اترك تعليق