قصة

قلوب حطمتها عاهات وتقاليد

فاطمة فحيل بوم

من أعمال التشكيلية والمصورة أماني محمد
من أعمال التشكيلية والمصورة أماني محمد


يجتاحني الملل والقلق. ليس لدي ما أفعله في هذه البلاد الكادحة سوى (الجلوس على) الشبكة العنكبوتية والعالم الافتراضي. دخلت إلى غرفتي، أخذت حاسبي المحمول، فتحت بريدي الالكتروني على موقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك”.

رسائل من صديقتي! ما بها؟! سأهاتفها غداً؛ لربما تريد شيئاً!.

أتصفح الانترنيت وأنا اقضم آخر جزء من التفاحة. أعجبني ذلك المنشور، ولفت انتباهي أكثر، ذلك التعليق. ضغطت على بريده الالكتروني، طالب في الطب، على مشارف أن ينال لقب “الطبيب”. لا بأس إذا أرسلت له طلب صداقة، ربما نكون أصدقاء على أرض الواقع!.

فور ما أن نبّهني حاسبي المحمول بإشعار موافقته على الطلب، نظرت إليه كأي إشعار متخطية إياه بكبسة زر. لم يكن محوراً شدّ اهتمامي، ولم يصبني الشغف لأن أتعرّف على معالم حياته. أغلقت الحاسب وأخذني سبات عمييييق، ولم أستيقظ إلا على صوت أمي في صباح اليوم التالي. بعد أن جهزت الافطار، وأكملت واجباتي المنزليّة الركيكة، أخذت هاتفي، وفتحت ذلك الموقع كالعادة، أذهب إلى قائمة الأصدقاء، ليقابلني ذات الشاب الذي أرسلت له “طلب صداقة” ليلة البارحة!. دخلت لألقي نظرة على صفحته الشخصية. ولا أعرف لماذا انتباني شعور الخوف عندما تمعّنت في صوَرِه، ذهبت راكضة بالزر، لأكبس على أيقونة “إلغاء الصداقة”.

تمتمت محدثةً نفسي: ‘‘ما هذا؟! مالذي دهاك؟! أظن تصرّفي ناتج عن قلة الذوق؟!’’..

رجعت وأرسلت له طلباً آخر، سرعان ما استجاب له مرة أخرى.

ضغطت على أيقونة الرسائل لأبدأ معه المحادثة:

– “صباح الخير، معليش إلغاء الصداقة كان أمراً غير مقصود، كبسة زر خاطئة، لا أكثر”..

– “صباح النور، لا عادي، ولا يهمك”.

تعارُفنا كان مجرّد محادثة لا يملؤها سوى أرقامٌ ترمز لأعياد ميلادنا، وحروف أسمائنا، وإلى أي بلد ننتمي. إنه يكبرني بخمسة أشهر، وُلد على مشارف السنة الميلادية التي وُلدت فيها، لا ننتمي إلى نفس البلد، ولكن تجمعنا نفس الديانة.

لم يغيّر حديثه شيئاً من صباحي، ظننت أنه ليس سوى صديقاً أُضيف إلى قائمة أصدقائي؛ لا أكثر. سرعان ما تمر الأيام وتتوالى. ليأتِ اليوم الذي أوظّب فيه أغراضي وحقيبة السفر، وأوظّب به أفكاري أيضاً. موعد رحلتي أذكر؛ كان بداية يوليو، منتصف النهار، لتهبط بي الطائرة في “مطار القاهرة الدولي”. كان ذلك في شهر رمضان الكريم، بالفعل إنه كريمٌ جداً ذلك الشهر المبارك، كريم حتى في بذخ المشاعر.

في ليلة، وبعد وصولي القاهرة، أخبرت ذلك الصديق الذي أضفته مؤخراً لقائمة الأصدقاء، بأنني الآن في بلاده. أضفى لي بعض عبارات الترحيب.

أخذَنا الحديث بعيداً لنثرثر كأصدقاء، يجيدون معرفة بعضهم منذ زمن، وإن كان ليس ببعيد. أذكر شهقات ضحكتي الصاخبة تلك الليلة التي فرطت دموعي منها. اعتدت محادثته ليلة تلو الأخرى، كجرعة دواء يتلقاها المريض في الموعد ذاته.

أفضفض له عن يومي، المواقف الذي قابلتني، عن كل أشيائي. أتحدث إليه بكل شفافية، دون أي تكاليف للرسميات والبروتوكولات ووهم التصنّع.

تتوالى الأيام وتركض، لينتهي ذلك الشهر العظيم، ويأتي عيد الفطر المبارك؛ لأسبقه بتهنئة نابعةٌ من القلب. ويأتي ذلك اليوم الذي أعود فيه لأرض الوطن، الأرض التي لا أودّ الرجوع إليها، الأرض التي لا يجتاحني إليها الحنين؟! بلادي الحبيبة التي تسكن قلبي ولكن لا أريد أن أسكنها.

أودع جزء من عائلتي المقيمة في القاهرة، لأرجع للجزء الآخر في وطني. أركب سُلَّم الطائرة ويستهويني البقاء، تجرّني قدماي، بالكاد أصل إلى مقعدي المخصص. أربط حزام الأمان ويبدأ المرشد بالتعليمات والإلحاح على أقفال الهاتف المحمول. ماذا لو كنت فوق السحاب وأنت المتصل؟! تباً لتلك القوانين الغبية.

تهبط الطائرة في “مطار طرابلس الدولي”، ليستقبلني جزء من عائلتي وأذهب إلى الجزء الآخر الذي ينتظرني في المنزل.

تمر الأيام. لم أعد استخدم تلك الشبكة العنكبوتية بشكل مفرط كالسابق. أظن أنه افتقدني جداً، كان واضح هذا في اهتمامه المفرط بكم الرسائل التي تلقيتها فور فتح بريدي الاكتروني الذي لا مبرر له.

اعترف هو بتصرفاته قبل لسانه بإعلان حبه لي؛ سعيدة كنت بذلك الاهتمام حد الشغف.

ولكن في ليلة هادئة نطقت بها مشاعره نيابةً عن لسانه، (أحبك!).. خيّم الصمت على المكان حينها، سألني:

– ما بكِ؟!

– لا شيء..

أصابتني الدهشة تلك اللحظة، وازدادت نبضات قلبي، أظن أنها الإشارة لمسمّى الحب.

أحببتك رغم قراري الصارم بأن لا أحب، أحببتك وأنا مستهزئة بالعشق والعاشقين. أحببتك وقد وقعت عهداً مع قلبي أن لا ندخل في هذه المتاهة. كنت أتوهم أن لا يتعدى هذا المسمّى الروايات والقصص والأفلام، كان يترجمها عقلي في مضمون لا يتعدى الخزعبلات.. فمالذي أصابني؟!.. لا أعرف!.

تتوالى الأيام ويزداد حبي له يومٌ تلو الآخر.

وفي ليلة، وعلى مشارف الشتاء؛ أخبرني بأنه يريد أن يتحدث لوالدي؛ يطلبني منه بطريقة رسمية.

لم يخطر ذلك في بالي قط؛ لأننا نحمل جنسية مختلفة. هذا الشي الوحيد الذي خطر على بالي فور سماعي لكلماته تلك. لا أظن موافقة عائلتي بشكلٍ عام، ولا والدي بشكل خاص، حيال هذا الموضوع.

خفت كثيراً أن يفرّق بيننا سببٌ سطحي مثل هذا!.

تمر فترة وجيزة ليقول لي أن أهله قامو بالرفضِ القاطع لموضوع ارتباطنا الرسمي. سألته باستهزاء وأنا موقنة من الرد: هه، عادات وتقاليد؟!

أجابني بتنهيدة قلب مكسور: نعم.

تمتمتُ في نفسي: ‘‘يتركون العُرف والدين، ويذهبون للعادات والتقاليد!’’..

– كيف لهم أن يقتلو حياة أُناس أبرياء، ويعملو على إنهائها تحت مسمى العادات والتقاليد؟!. كيف لهم أن يجهضو جنين الحب في القلوب؟!.

تمر الأيام وتتوالى، لتنقطع علاقتنا بشكل نهائي. أعيش أنا على ذكراه، ويعيش هو في حياة جديدة مع شريكة حياته، التي كانت من اختيار والدته؛ وفق آخر معلومات أرسلها لي في رسالة نصيّة!.

أقرر السفر مرة أخرى، ولكن هذه المرة ليس بغرض الزيارة، إنما الإقامة، أنا وأمي، وتحضيري لرسالة الماجستير بناءاً على رغبة والدي.

كان وقتها منتصف شهر رمضان، لا شي أملكه لنفسي سوى الدعاء لرب كريم في شهر كريم، أطلب منه فقط أن يرده لي رداً جميلاً.

أن يرد لي نفسي الضائعة التي أبحث عنها، ليرد لي أحداث أكثر من سنة مضت، ويرد البهجة لقلبي.

وفي أول يوم من عيد الفطر المبارك، لا أعرف لماذا ألحّ قلبي كل هذا الالحاح لسماع صوته، أخذت هاتفي مترددة، ولكن لا بأس سأُجري الاتصال وأهنئه بحجة المناسبة. أتصل وبالكاد أستطيع أن أتنفس، بالكاد أن أتخذ وضعية الشهيق والزفير، قاطع أنفاسي:

– “اشتقت إليكِ، كل عام وأنتِ بخير”.

فصل بيني وبين الإغماء شعره، زفّ لي خبر انفصاله عن خطيبته كأم تزف وحيدتها في ليلة عُرسها إلى حبيبها، وكأن الله استجاب لدعوة كررتها ألف مرة في ثلاثون ليلة، دَخَلت إلى قلبي السعادة من أكبر أبوابها، رُدّت الروح إلى الجسد، ردّت الألوان إلى عالمي الذي تلوّن بالأسود منذ مدة،  بكلمة واحدة رتّب كل شيء في مكانه، حتى قلبي رجع له نبضه.

في الاسبوع نفسه، بعد خروجي من المحاضرة في “جامعة عين شمس”، تنبّهني رسالة من هاتفي، أخرجه من جيب معطفي:

– الحياة نصيب، والعادات والتقاليد تحكمنا، دمتِ بخير يا وجعاً يعتصر قلبي.

فجعتني تلك الرسالة، وحطمت قلبي، عرفت حينها أن أهله ووالدته لازالوا مصرّين على رأيهم. لا يعلم أنه شق قلبي بالخنجر ذاته للمرة الثانية على التوالي. أصبحنا نتكلم كأصدقاء يوماً بعد عشرة أيام، أصبحت لا أستطيع النوم، لا أستطيع الدراسة كما مضى، لا أستطيع الحديث مع صديقاتي كالعادة، بالمختصر لم يعد بإمكاني العيش كالسابق، كان قلبي ينبض في جثة هامدة.

كانت الابتسامة لا تفارق وجهي، اليوم الدموع التي أدرفها لا تفارق عيناي، انكسر قلبي نصفين في غيابه، نصف رحل معه، ونصفٌ آخر يوهم نبضي أنه قادر على الحياة.

وبعد مرور أكثر من شهرين قررت أنا العيش دونه، ظننت حينها أن قلبي قد اجتاز خطوة كبيرة من مراحل النسيان.

يأتي صباح آخر اختباراً لي، أتناول وجبة إفطاري، تتردد دعوات أمي لي بالاجابة، أقبّل جبينها (حبيبتي إنتي). أنحني لارتدي حذائي، تعلو نغمة رنين هاتفي.

رقم على الشاشة دون اسم!.

آآه نعم تذكرت، إنه هو. وقفت لثوانٍ، راوغني حنيني قليلاً، ولكن أظن أن عقلي كان يكتسب مهارة أكثر في فن المراوغات، وتسديد الهدف الصائب، أغلقت هاتفي المحمول، رميته في أقصى الحقيبة، اعتصرني قلبي، نزلت دمعتي التي شقّت خدي، دعوت له دعوة صباحية من كل قلبي أن يكون بخير. بينما في طريقي إلى الجامعة، شردت بسؤال يراودني كل ليلة:

– كيف لأشياء دنيئة كالعادات والتقاليد، يمكنها أن تكسر كل هذا الحب، كل هذه المشاعر، كل ذلك الودّ، وكل تلك القلوب البريئة الصادقة؟!

مقالات ذات علاقة

حـكاية جـورب

محمد الأصفر

ذاكرة زرقاء 2

هدى القرقني

صغار العشية

عزة المقهور

اترك تعليق