قصة

صغار العشية

الصورة لتلاميذ بأحد المدارس الليبية
عن وكالة الأنباء الفرنسية

“صغار الصبح يبوا الدبح..
صغار عشية، يبوا طاسة كاكاوية “..

لم أفهم، ولم أحاول حينها أن أفهم ، لماذا هذه التفرقة ما بين “صغار الصبح” و بين “صغار العشية”. كنت طوال مرحلة دراستي الإبتدائية من “صغار الصبح”، لكن عودتي المتأخرة بعد الظهر تجعلني انتظر مضطرة دخول “صغار العشية” إلى المدرسة عبر الباب الحديدي الواسع المطل على شارع الظهرة الرئيسي  وقد تجاوز النهار منتصفه، وخفتت حركة الشارع.

كنّ مثلنا، يرتدين “القرمبيولات” السوداء، ويضعن حول أعناقهن “الرقبة” البيضاء، ويربطن شريطا أبيض يُعرف بـ “الناسترو” ما بين عروتي “الرقبة” على شكل “فيوكة”. وتختلف طريقة “الربطة” بالذات، فالبعض يربطها على عقدتين كي تقاوم انفكاك طرفي الشريط وانزلاقه وبالتالي فقدان “الرقبة” التي لابد وأن تنحل وتسقط أرضا في ساحة المدرسة الواسعة، وآخريات يكتفين بعقدة واحدة ويتركن الشريط طويلا تحركه الريح المنبعثة بفعل الجري واللعب.

ورغم أنهن مثلنا تماما في ملبسهن، وحقائبهن الثقيلة بحزاميها حول الكتفين، وحقيبة الأكل البلاستيكية الملونة، وبنيتهن الضعيفة، وشعورهن المضفورة أو المجموعة على هيئة “ذيل حصان”، إلا أن شيئا ما غريبا بيننا يجعلنا مختلفين.. شيء يحوم في الهواء، في تلك المسافة وتلك المساحة الزمنية أثناء اللقاء، يجعله يشبه الحقيقة ويخلف أثرا في نفوسنا لا نعرف مصدره. نعتقد نحن “صغار الصبح” إننا متميزات، نعانق الصباح الباكر، نبدأ يومنا بنشاط، وبحصص دراسية مبكرة عادة ما تكون خاصة بالمواد العلمية، كما وأن المدرسة تكون أشد ازدحاما وضجيجا، وكأن المدرسة لا تكون كذلك إلا صباحا، وأنها تلفظ انفاسها بعد الظهر، فتبدو لنا الدراسة في “العشية” أقرب إلى النزهة في جو فاتر بطئ ممل ويتهيأ لنا أن ساعاتها أقل.

ولم يفكر أحد إطلاقا في جمعنا معا ولو ليوم واحد في السنة، أو أن نشترك معا في النشاط الموسيقي أو الرياضي. تُركنا لريبة تغلف تلك الفترة الزمنية القصيرة ما بين خروجنا “للمرواح” ودخول “صغار العشية” للمدرسة، لا نتبادل كلاما، عدا نظراتنا المريبة تلتقي ثم سرعان ما تسقط أرضا. حتى رحلاتنا المدرسية مختلفة، لم ننطلق مع “صغار العشية” في رحلة قط، كتلك التي نغني فيها للسائق وندفعه منتشيا للدوس على الوقود ومراقصة مقود الحافلة في الطريق إلى غابة “جودايم” غربا.

“سواقنا ما قنينته.. يبي حلوى مينتا”
“ياسواق اجري على المية.. ما تخافش ع البطارية”
“صغار عشية يبوا طاسة كاكاوية”

ولكأس الشاي بالكاكوية علاقة بفترة “العشية” في البيوت حيث تمارس طقوس لشربه، وتخضع من خلالها أجساد الكاكاوية الصلبة للحرارة لتأخذ لونا برونزيا وتفرك عنها القشور الهشة المتطايرة وتعبأ بها الاكواب الصغيرة في الدور الثالث والأخير لإعداد الشاي الأحمر، حينها يكون “صغار العشية” في المدرسة وبالتالي يحرمن من تناولها.

وما بين انتهاء يومنا الدراسي، وحضورهن إلى المدرسة كان اللقاء عابرا يتسم بالريبة أو باللامبالاة، وما شأننا بهن “صغار العشية”؟  رغم أن ما يجمعنا الكثير، عدا التوقيت، فما كان إلا أن طغى التوقيت واحتل المساحة الزمنية كالمد، في حين ضاقت وانحسرت كل المساحات المشتركة وتباعدت كبرك السبخات. تجمعنا سنوات العمر المتقاربة، والملامح البريئة، والضفائر وذيل الحصان، وحقيبة الأكل بقفليها ورسوماتها، والأحذية الرياضية، والجوارب الصوفية الطويلة، والندوب على الركبتين، والخدوش على اليدين، و”الناسترو” المفكوك، و”الرقبة” التي تدور تلقائيا وتقف عند الجنب، وسندوتشات التونة والهريسة، وعلبة “اليوجا” المعدنية، و”القرمبيولات” المغبرة بالطباشير، وفترة الاستراحة، والعاب “الياستيك” و”الوابيس” و”النقيزة”، واستسلام اليدين للعصا الغليظة، وتسميع النصوص، والوقوف خجلا أمام السبورة لحل مسألة حسابية معقدة، والتذنيب على الحائط الرمادي، والنعاس أثناء الحصة، وذاك الخوف الذي يخنق أنفاسنا ويكاد أن يصدر صوتا ما بين جنباتنا أثناء الامتحانات، والواجبات التي تثقل عقولنا، و”الخليطة” التي نتحلق حولها في الاستراحة، واختلاط صرخاتنا بجرس انتهائها…

لماذا.. صرعت دقائق قليلة كل المشترك فيما بيننا، لنصبح نحن “صغار الصبح” وهن “صغار العشية”؟

حتى جاء ذلك اليوم الذي تأخر فيه والدي عني طويلا، واضطررت معه للجلوس على حقيبتي والاستناد على حائط المدرسة وقد نال مني الجوع والإعياء في يوم صيفي قائظ. كان البواب بين الحين والآخر، يترك مقعده المريح أمام الباب ويستطلع الشارع في إشارة لقلقه على تأخر والدي.

خرج “صغار العشية” للإستراحة، وسمعت هرجهم قبل أن يتبعثروا في الساحة، ورأيتهن مثلنا يتقافزن حول “الأستيك” الممطوط بين اقدامهن، بينما تقفز احداهن داخله وبين أطرافه بخفة، إلى أن تعجز عن القفز بعد أن يصل من الأقدام إلى السيقان وحتى الرقبة.  وأخريات يقفزن داخل مربعات “النقيزة” بعد أن يقذفن بالحجر داخلها، وغيرهن يتدافعن للاختباء خلف الأعمدة التي يقف عليها مبنى المدرسة، ثم يتسابقن للمس العمود الأساسي تحريرا لهن من ربقة الباحثة عنهن.

حين اثارت معدتي اشجانها بأصوات حزينة، تنبهت أن لا مقصف يبيع “لصغار العشية” السندوتشات يتزاحمن أمامه ويمددن بورقة الربع دينار وهن يصحن ” نص بالطن ياعمي” كما هو حال “صغار الصبح”.. انتظرت لعل المقصف يفتح نافذته ليفرج عن رائحة التونة المخلوطة بالهريسة وزيت الزيتون فخاب أملي. كنت أتأرجح ما بين الوعي والنوم، حتى وجدت قدمين صغيرتين تقفان أمامي، رفعت رأسي فكانت هي، الفتاة التي التقيت بها عند دخولها من الباب الرئيسي، بضفيرتها اليتيمة التي يزينها شريط ابيض يتداخل معها ويلفها ويعقدها في الأسفل. تقاطعت عينانا لبرهة من الزمن ثم سرعان ما سقطت.

“تبي من خبزتي”؟
حركت رأسي بالرفض.
“بوك ماجاكش”؟

فانهمرت بالبكاء، وعلا نشيجي حتى تحلق حولي “صغار العشية” وصنعوا طوقا من الظل.. “خيرها… خيرها”، تولت الفتاة التي علمت اسمها لاحقا توضيح الأمر دون أن أوضحه لها “بوها ماجاهاش.. هذه من صغار الصبح”. كما وأنها تولت فيما بعد ترديد ذات العبارة أمام المعلمة التي جاءت تستطلع ذاك التجمهر الذي زاد من بكائي. “هيا كل واحدة تمشي في حالها”.. إلا رجاء، التفتت اليها المعلمة “خليك بحداها رجاء لين يجيها بوها” حينها عرفت اسمها.

قرفصت رجاء ساقيها، وقطعت كسرة من خبزها ومدته لي.. رفعت رأسي وتأملت وجهها وابتسمت.. كان أطعم خبز تناولته في حياتي. أخرجت “الترمس” وناولته لي فشربت منه لأطفئ حرارة “الهريسة” التي ألهبت لساني. وقبل أن تنتهي الاستراحة، سمعت منبه سيارة والدي، التفت البواب نحوي بعد أن نفث سريعا دفقة دخان من فمه وهو يصيح “اهو بوك جي.. خفي روحك”. قفزت من مكاني، احتضنت حقيبتي وخرجت مسرعة، تاركة رجاء خلفي.

ومنذ ذلك اليوم، انحسرت الفترة الزمنية ما بين مجيء والدي ودخول “صغار العشية” المدرسة. اصبحت انتظر رجاء، وهي تلج الباب الحديدي الواسع بتؤدة كما أفعل كل صباح، أقبل نحوها، أعبث بضفيرتها فتبتسم وأصاحبها حتى طابورها بذراعين متعانقتين. لم يكن الوقت كافيا للحديث، لكننا اكتشفنا أننا نتشارك ذات المقعد، فاتفقنا على أن نتبادل الرسائل القصيرة والرسومات الملونة في درجه.

حينها أدركت أن “صغار العشية” هم “صغار الصبح”، وأن “صغار الصبح” هم “صغار العشية”.. كلهن يتدثرن بالزي الأسود، وحول رقابهن شريط أبيض، ويجلسن تحت ذات السقف ويتشاركن ذات المقاعد، ويأكلن ذات الخبز المثقل بزيت الزيتون والتونة والهريسة..  الفارق أنهن يتبادلن اليوم ويتقاسمنه فيما بينهن.

25 يناير 2017

مقالات ذات علاقة

وجع الرحيل

صفاء يونس

محاولة انتحار رابعة

رامز رمضان النويصري

أجمل بلوزة في العالم

عائشة إبراهيم

اترك تعليق