النقد

قراءة نقدية للقصة القصيرة جدا في ليبيا – القصة النسوية

د. نجاة عمار


القصة القصيرة جدًّا فن أدبي، عُرف حديثًا في السرد العربي، وقد ناوشه الأديب الليبي فأبدع.. وفي هذه الورقة مفاتشة لبعض النصوص القصصية الليبية التي أُبدعت بأنامل أنثوية، وسنركز على القصة الاجتماعية النسوية التي اتخذتها القاصات براحًا يتنفَّسن فيه همومهن ومعاناتهن.

مررت بداية على العتبات النصية، فكان للعناوين حظٌّ وافرٌ من البحث، فهي السمة التي تطبع المتن، فتفسِّره وتوضِّحه، وهي مفتاح الدخول إلى النص لفك رموزه ودلالته، فهي رؤية خارجية تضم النص انطلاقًا منه، يُسرِّبها الكاتب لفتح باب الفهم للمتلقِّي.

Image may contain: ‎‎6 people, ‎including ‎رحاب شنيب‎‎‎, ‎people smiling, ‎text that says '‎قراءة نقدية للقصة القصيرة جدا في ليبيا القصة النسوية رحاب شنيب إمغلية العقوري حنان الهوني مريم الأحرش غالية الذرعاني غادة البشتي‎'‎‎‎
القصة النسوية القصيرة

على ذلك كان تشريحنا لنصوص القاصات: غادة البشتي، مريم الأحرش، غالية الذرعاني، حنان الهوني، رحاب شنّيب، إمغلية العقوري، وقد خلصنا إلى أنهن حرصن على تنوُّع العنونة بتنوع النصوص، والطريف في هذه القراءة تكرار عنوان بعينه لدى بعض القاصات، فكان عنوان (خيبة) مكرَّرًا على واجهة نصوص غادة البشتي التي تبوح بأكثر من خيبة؛ إذ عنونت نصًا لها بـ (خيبتان): “أَشْعرُ بِذنبي بسببِ زَوَاجِي مِنْكِ في فترة شَعَرْتُ أنْ لا أنثى تفهمُنِي.. وتليقُ بي غيرُكِ.. فَجْأَةً اِكْتَشَفْتُ أَنَّنِي وَاهِمٌ!!….. يَالَخَيْبَتِيْ..!؟ أَلأَنِّي نَاوَلْتُكَ قَمِيصَكَ الأَبْيَضَ بَدَلَ الأَزْرَقِ..!!

سجَّلت القاصة هنا خيبة الرجل من انعدام التواصل الفكري بينه والمرأة، فهو يشعر بالخيبة لأنها لا تتواصل معه، وهي تظل امرأة تتعلق بما بين يديها بعيدًا عنه، فتكون خيبتها فيه أكبر لأنها لا تراه من منظاره إنما من منظار بساطتها.. وقد جاءت هنا القصة أقرب للخاطرة، فالأحداث لا حركة فيها، وقد وظَّفت الكاتبة تقنية الحذف لإضفاء جمالية على نصها الإبداعي.. أما الخيبة الأخرى فلم تبتعد عن الأولى: ”حَاوَلَ مُصَالَحَتَهَا هَامَسَهَا كَعَادَتِهِ بِـ (حَبِيبَتِي).. تَلَعْثَمَ قَلْبُهُ.. حَرُنَ لِسَانُهُ فَعَادَ لِهَجْرِهَا..!!“.. هي خيبته من ذاته حيث لجأ إلى تزييف مشاعره، ففشل في حل ما تعقد من حياته، وربما خيبة المرأة فيه، لتأملها الكثير منه، فلا يحقق حتى التواصل بينهما.

أما خيبة غالية الذرعاني فهي مختلفة : رسمتْهُ قمرًا،فوضعها في جانبه المعتم. كتبتْه أغنية فأطعم حروفها للقطط. رأتْه مرفأ فأنار لها طريقا للضياع. فالمرأة هنا تبني والرجل يهدم..كم هو شعور مخيب للآمال ذلك الفعل، فكلما مدت خطوة نحوه ابتعد، أو بالأحرى أبعدها فراسخ عنه، بلامبالاة محرقة. نقرأ في هذا النص الجميل ثلاث جمل، لو اعتمدت القاصة كل نص على حده،لكان لدينا ثلاث قصص قصيرة جدًّا، اعتمدت الاختزال والتكثيف الشديد مع إيحاءات دلالية تنتقد بها واقعا مريرا من خلال سخرية جعلتها نهاية الحدث، فقد نجحت بذلك في إجاعة اللفظ وإشباع المعنى كما يقول الدكتور جميل حمداوي.

ونختم مشروع الخيبات بخيبة القاصَّة حنان الهوني التي جاءت قاصمة لتلك التي أضاعت العمر في طلب المحال: “انتظرت إكمال أخيها لدراسته الجامعية،حتى يرافقها لإكمال دراستها العليا بالخارج، وبعد طول انتظار سمحوا لها بالسفر بدون مرافق لبلوغها سن الأربعين..!”.

تسجل القاصة مفارقة بين الحدث في أول القصة والنهاية المؤلمة للبطلة، ولكنها افتقرت للتكثيف والاختزال، بلجوئها إلى التوضيح والتفسير، وكذلك المباشرة في العرض مما يقتل المتعة في العمل الإبداعي. وفي النص الانتظار رفيق درب للمرأة، والخيبات نتاج لصراع القديم والمحدث، يدفع ثمنه الأضعف، فحياة المرأة رهن بالرجل، ولا قيمة لها إلا في ظل رضاه أبًا وأخًا وزوجًا وحتى زميلَ العملِ!! وقد لاحظنا أن جل العناوين تشي بما في النص، إلا أن بعضها كان بعيدا عن محتواه وصوته، فنص رحاب شنِّيب الموسوم (طريق) لا يبين عن المضمون حيث تقول: “فتاة تراقب واجهات المحلات اشتهت الأزياء، فتًى يقف على الطريق اشتهى جسدها، طريق اشتهت شهوتيهما“.

فلو تأملنا النص لوجدناه كله اشتهاء، ونصيب الطريق فيه ضئيل، لذلك في اعتقادي أن عنوان (اشتهاء) أكثر إلمامًا بدلالته. كذلك نجد صورة الحلم تتكرَّر في قصصهن، وفي الحلم تحقيق لرغبات مكبوتة يلجأ إليه الإنسان هربًا من واقع مفروض، ونجده هنا ثيمة من ثيمات النص النسوي، فنص مريم الأحرش حلم عبر عن رغبة في لقاء الآخر فتقول: ”على مشارف الحلم التقت به.. فجأة استيقظت إن الواقع يعاندها، لكنها تنتبه له..“.

وغادة البشتي تقول في حلمها: “اِنْتَظَرَتْهُ.. حَلُمَتْ بِهِ لِسَنَوَاتٍ جاء.. في اللَّيْلَةِ الأُولَى.. فَاغْتَالَ الحُلَمَ..!!“ فقد اغتيل حلمها، وفي اغتيال الحلم اغتيال للحياة، لزمن ضاع هدرًا في صنع فقَّاعات تلاشت مع أول تجربة تصادم.. ويلمس المتأمُّل للنصِّ جماليَّاتِهِ من خلال تتابع الحدث بتوظيف الفعل منذ الكلمة الأولى فنجد الأفعال (انتظرتْ /حلمتْ/ جاء /اغتال) قد لخَّصت أحداثًا كثيرةً، مع المحافظة على شروط القصة القصيرة جدًّا، من بداية وأحداث ونهاية جاءت مفاجئة بفعل سالب وتشخيص للحلم في لغة جميلة، ولم تغفلِ القاصَّةُ أن تزود النص بعلامات ترقيم لها مدلولاتها التي تضفي الكثير.

وتأتي إمغلية العقوري لتضع أمامنا جبلاً لأحلام نساء يتأملن أن يصير سهلاً تينع فيه الثمار، وتزهر فيه نبتات الصبار: (في ذلك المكان اجتمعن على شكل حلقة وبدأن في سرد الحكايات ثم راحت كل واحدة منهن تدلي بحلمها للأخريات.. غادرن المكان وتركن عليه جبلاً مكوَّمًا من الأحلام…..!!) ونستطيع القول إن ابتداء النص السابق بشبه جملة، ينال من جماليات القصة، إذ يوحي بالثبات في الحدث، فضلاً عن اتجاهها إلى التفسير والتوضيح، مما يخرجها من دائرة القصة القصيرة جدًّا التي تعتمد الاختصار في السرد.

وإذا التفتنا إلى مجموع تلك النصوص، وبحثنا فيما تناولته من قضايا لوجدنا أنها متفقة في أكثر الأحيان على أن المرأة قضية الرجل، وفي الوقت ذاته الرجل هو مكمن همها ومعاناتها، لأجله تصرخ، وبه تلوذ، ومنه المشتكى، كل ذلك نجده مدوًّنًا في أفكار حبلت بها نصوص القاصات اللائي امْتَحْنَ صورَهُّنَ من المجتمع حولهن، فَهَمُّ المرأة واحد على اختلاف مستوياته، وثقافتها، وثقافة مجتمعها.

فلو استنطقنا نص مريم الأحرش الموسوم بـ (ظل): ”لمحته وسط الزحام.. اقتربا صار ظلاًّ“.. لوجدنا أن العنوان من كلمة واحدة (ظل) يختزل القصة، ويميزها بالتكثيف الشديد، مما يضفي عليها جماليات يبرزها أن تبدأ بالفعل، فيمنحها خاصية الحركة، في تتابع الحدث (لمحتْ فاقتربتْ فصار) ثم النهاية غير المتوقعة،التلاشي، فتهب القارئ متعة التأويل والتحليل. فالمرأة هنا على كثرة من حولها ميَّزت صورة ذاك الذي تريد، والمفاجأة الصادمة ألاَّ يراها كما تراه، بل إنها لا تجد فيه ما حلمت أن يكونه، فهو الصورة المزيَّفة، أو النسخة المسخ لذلك الذي حفرت صورته في الذاكرة، وهي معاناة قد تكون مشتركة، فكما تصدم المرأة في حلمها كذلك الرجل، إلا أن زاوية الرؤية لدى القاصة جاءت بضمير الغائبة.

وجاء نص إمغلية العقوري ليصدر حكمًا على رجل خيالها فعنونت نصها بـ (فاقد الشيء): تبحث في عينيه عن أمان يقيها من غدر الحياة، وحنان يكسوها من برد الزمن.. لم تدرك بعد بأن (فاقد الشيء لا يعطيه).. ربما هي تقدِّم المبرِّرات رأفةً به، أو بالأحرى شفقةً عليه، فهو لايملك ماتطلبه منه المرأة وما تبحث عنه فيه، لذلك عليها، ألا تتأمل شيئا منه ففاقد الشيء لا يعطيه، إنها تنعته بالعجز وهو داء العصر، ألمحت له الكاتبة بتوظيفها للمثل المعروف (فاقد الشيء لا يعطيه). وإذا جسنا النص للبحث في فنِّيته، لوجدنا أنه فقد عنصرًا مهمًّا لجماليته وهو التكثيف والاختزال بذكر تفاصيل لا ضرورة لها. ولنا أن نقول إنه مع كل تلك المعاناة التي تستشعرها الكاتبة حيال الرجل، إلاَّ أنها تطرَّقت إلى العديد من المواضيع الاجتماعية التي تنخر في المجتمع، وهي تلامس تلك الهموم لوعيها بأهميتها، فهي بكتابتها الإبداعية تثبت ذاتها الفاعلة التي تجَّلت في سرد مكابدتها في الحياة.

نخلص من هذه القراءة العجلى لتلك النصوص، أن الكتابة الإبداعية يتشارك فيها الرجل مع المرأة، وقد جاءت نصوصها معبرة عنها، نستشعر من خلالها أن غصة في القلب تحاول أن تنفثها على فضاء الورق، تتشارك بها مع آخرين، لتخفِّفَ عنها تبرُّمِها من تلك الحياة التي يسيطر فيها الأقوى، وتصادر حقوق الأضعف، لذلك نلمح شعورًا بالعجز شديدًا، ولجوءًا إلى الحلم لتحقيق التوازن النفسي؛ وقد حاولت القاصات الإلمام بآليات القصة القصيرة جدًّا، وتوظيفها لالتقاط الإنساني والاجتماعي وصياغته في لغة شاعرية عند بعض القاصات مع تكثيف واختزال للأحداث، ومحافظة على الشكل الخارجي للنص الذي يعتمد قصر الحجم. أكدت النصوص أن الرجل وطن المرأة، كما هي سكن له، وما تعرية مكامن نفسها إلا محاولة مستميتة منها لترميم ذاتها وحياتها، لزرع مصالحة تراها حلمًا ممكنًا. ونحن في هذه المحاولات لم نلتفت لدراسة فنِّيتها بقدر التفاتنا لمقاربتها الحياة الاجتماعية، وفق المحور الأساس لهذا البراح الزمني، ذلك أن متطلبات النقد التعمق في كل نصوص القاصات لإصدار أحكام مبنية على أسس علمية، مما لا يسعه هذا الفضاء.

وأخيرًا أسعدني جدًّا التجوال بين أزاهير تحاول أن تتفتح وتبرعم في تربة مالحة،نأمل أن نراها يومًا خصبةً.


مجلة هوامش الثقافية، 24 ديسمبر 2013

مقالات ذات علاقة

كما لو أنهُ يقُص

ناصر سالم المقرحي

القصة بنكهة أهل البلد

رامز رمضان النويصري

نوافذ مشرعة على التاريخ والحياة

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق