رتب عودته بإتقان شديد ارتدى ذاكرة المكان القديمة ، تهيأ لجميع الاحتمالات ، عاند المنافي للعبور وأحكم حبكة الحضور ،لم يكن في رأسه غير تاريخ قديم لمنطقة حلمه ومرتع رؤاه ووريقات باهتة عالقة بين طيات عباءته تؤكد الانتماء الشديد لمسقط الرأس والقلب والروح .
كان رجلاً يغيب في أنفاس النسيم، يتربع فوق سعفات النخيل ،وتغيب ملامحه في وطن لا تغرب عنه الشمس إلا لتشرق من جديد ، فارساً يتعقب همهمات القبلي وزفير الرمال ، يكيل العشق لكل النجمات المتلاعبات في سماء ليل صحراوي طويل ، لضجيج نبض الأرض يسترق السمع ويرفل في ذاكرة الأعراس شاعراً ، زفيره ينهمر بالدفء والدهشة والذهول ، يحلو له التشبه بالسراب ، هو ينبوع في فيضان قصائده ونهر هادر ولكن لا شاطئ له .
لحظة قرر العودة ..
كانت السماء صافية والقمر بدراً، وكان هناك متسع من الوقت ، متسع من الحب ومتسع لكل شيء.
ولكن، عند تخوم المسقط الغالي وجد ما يشبه الهوة العميقة ، صدع كبير يفصله عن مبتغاه ، شرخ وأسلاك شائكة وأشباه رجال ، وقف على الشفير متأملاً ، كان التاريخ يكبره بعدة قرون ، وكانت الوريقات الباهتة لا تؤكد إلا التيه وكانت ذاكرة المكان خالية من رؤاه فظل متأرجحاً بين النكوص والنكوص ، عالقاً على شفا حفرة من الجحيم .