د.محمد مسعود جبران
يحكي الشاعر: وقفت في أحد الأيام على ضاحية أبي منجل في طرابلس الغرب حيث مدارج الطفولة، ومسارح الصبا الجميل، فراعني أن أجدها خلوا من السكان والعمران، وأنها صارت أثرا بعد عين، فأوحى لي مرآها المؤثر بمشاهد الصور والذكريات، التي كانت تحفل بها تلك الربوع والأطلال، بهذه الأبيات الواصفة لها.
أَيَا دَارَنَا فِي الغَابِرينَ سَلامِي
أَبْكي عَليكِ مِن الفُؤادِ الدَّامِي
عَبَرتْ إِليكِ النَّازلاتُ عَشِيَّةً
وَهَوَتْ بِمعْوَلها إِلى أَحْلامِي
هَدَمتْ رِواءَ الحُسنِ وَهْو مُخَلَّدٌ
مِن مَهْتفِ الإِبداعِ فِي إِلهَامِي
مَا رَاعَهَا وَعَلى العَتِيقِ مَهَابةٌ
أَنَّ الزَّمانَ بِدَارِنا مُتَرَامِ
شَهِدَ الحَوادِثَ وَالحروبَ تَشَامُخًا
وَهَزَا بِهَولِ صَوَاعقٍ وَغَمَامِ
تَعلو عَلى الأَخطَارِ مِنهُ ذُؤَابَةٌ
تَحيا لِثَغرِ الدَّهرِ كَالإِلجامِ
قُمْ سَائل الرُّكبانَ عَنْ وَقَفاتِهِ
بِاللهِ أَينَ قَذائفُ (الأَرْوَامِ) ؟
وَلِسانُ حَالِ الدَّارِ يَنْهضُ شَاهِداً
فَبقَاؤهَا رَمزُ الخُلودِ النَّامِي
أَطْلالُهُ بَينَ البُنَى كَرَضِيعةٍ
قَد كُلِّلتْ لِجَمالِها بِوِسَامِ
(بُوْمِنجلٍ) أَنْفَقتُ فِيكَ طُفُولتي
وَشَبِيبَتي فِي أَعذبِ الأَيامِ
أَنْهَلتَني مِن رَاحتيكَ مَوَارِدًا
وَهَوَاطلاً فِضِّيةَ الأَختَامِ
وَحَبَوتَنِي فِي عُدْوَتيكَ بِرِفْقَةٍ
بَقيتْ نَشَاوَى مِن كُؤوسِ مُدَامِ
وَكَرعتُ مِن أَلقَ الصَّفاءِ مَحَبَّةً
مَجْدُوَلةً تَزهُو مِن الإِبرَامِ
وَعَشيرتي فِيكَ اصطَحبتُ وَجِيرتَي
سَبَقُوا بِفَضلِ وِصَالهم أَرحَامِي
هِمْنَا بِعَهدكَ جَاذِلينَ وَشَاقَنَا
مِن أُنسكَ المَطلولِ بَدرُ تَمامِ
فَكَأنَّما سَكنَ الفَؤادَ بِجَنَّةٍ
فَيحاءَ قَد بَرِئتْ مِن الأَوْغَامِ
أَينَ المَلاعبُ فِي العَشِيِّ تَزِينُهَا
بِالكَرِّ أَوْ بِبَراعةِ الإِحْجَامِ؟؟
تَرنُو إِلى الأَضواءِ مِلءَ إِهابِنَا
وَنُلاعبُ (الفُوتْبولَ) بِالأَقدامِ
وَيَروقُنَا الوَسْمِيُّ عِندَ هُطُولِهِ
مَا أَرْوَعَ الوَسْمِيَّ تَحتَ غَمَامِ!!
كُنَّا نُعَابِثُ فِي الغَديرِ وَطَمْيِهِ
لا نَعرفُ الجُرْثومَ فِي الأَجسامِ
نَجري خِفَافَاً كَالطُّيورِ وَنَلتَقي
بَينَ النَّخيلِ كَمُتْرَفِ الأَكمَامِ
وَصُدُورُنَا مَلأى بِعِقْدِ تَمائمٍ
فِيهَا الرُّقى مِن كُلِّ ذَاتِ لِمَامِ
تَحْكِي لَنَا الجَدَّاتُ عَن خَطَراتِهَا
وَتُخِيفُنَا بِالغُولِ عِندَ ظَلامِ
فَنَلوذُ بِالصَّمتِ الرَّهيبِ هُنَيْهَةً
مِن خَشْيةِ السَّعَلاةِ فِي الآكَامِ
وَحَدِيثُهَا حَذَوَ الفَتِيلِ مُشَوِقٌ
كَحِكايةٍ تَبْقَى بِغَيرِ تَمَامِ
حَتَّى إِذَا ضَحِكَ الصَّباحُ مُنَوَّراً
عُدْنَا إِلى رَبعِ الهَوى بِهُيَامِ
نَمضِي إِلى الكُتَّابِ فِيه فَقِيْهُنَا
وَنُرَتِّلُ الآياتِ دُونَ نِظَامِ
هَذَا يُرَتِّلُ فِي القِصَارِ مُجَلجِلاً
وَرَفَيِقُهُ يَتلو مِن الأَنْعَامِ
وَالجَامعُ المَعمُورُ فِي عَليَائِهِ
تَتْرَى بِه النَّفحَاتُ فِي إِحكامِ
وَيُظِلُّنا سِيدِي الفَقِيهُ بِكَرْمَةٍ
فِي ظِلِّهَا تَشْتَمُّ كُلَّ بَشَامِ
فَنَعُبُّ (بِالْمَيْضَاةِ) طِيْنًا رَائِقاً
وَمِن المِدادِ عَلى شَبَا الأَقلْامِ
كَمْ قَد أُصِبتُ مِن العِنَادِ بِفَلْقةٍ
تَسْتَكثرُ الضَّربَات مِنهَا عِظَامِي
وَأَعدُّ مِن فَنَن ِ الجِنَانِ عَزيفَها
أَوَّاهُ مِن ثَغرِ العَصَا البَسَّامِ
لِلَّهِ مَا بَينَ الرُّبوعِ خَميلةٌ
تُسْبي المُحِبَّ بِمغْرسٍ وَرُغَامِ
مَلأَ الرُّعاةُ الوَادِعونَ سُهُولها
وَتَرَنَّموا لِلشَّمسِ فِي الآجَامِ
فِي سُوحِهَا نَمَت البَراءةُ غَضَّةً
تَخْضَلُ مِنهَا مَرَاشفُ الأَنغَامِ
كَم هَاجَنِي (البَابُورُ) مِن جَنَبَاتِهَا
بِدُخَانِهِ المَوَّارِ وَهَو أَمَامِي
وَأَرَى الصِّحابَ يُلاحِقُونَ مَسِيْرَهُ
جَعَلوا الأَماني فِي لَحَاقِ (تَرَامِ)
لا يَأْبَهُونَ إِلى الخَفيرِ مُنَدِّدَاً
إِنَّ البُطولةَ فِي رُؤى الإِقدَامِ
وَيُسائِلونَ مِن البَراءةِ بَعْضهُمْ
هَلْ يَنفُثُ البَابورُ مِن آلامِ؟!!
شَرِبُوا لَبَانَ الطُّهرِ مِن أَثْدَائِها
وَتَضَلَّعُوا مِنهَا بِغَيرِ أَثامِ
آباؤهُم صِنُو الأَمَاثلِ شَمَّرُوا
بِسَواعدٍ تُرجَى لِكُلِّ مَهَامِ
يَسْقُونَ فِي قُلَلِ الحَياةِ مَغَارِسَاً
وَجمَيعِهم يَومَ الفَخَارِ عِصَامِي
وَالمعْسِرونَ مَعَ الغَنِيِّ تَمَاثلوا
لَم يُعرَفوا فِي عَيْشهِم بِخِصَامِ
وَالآنساتُ مِن الفَضِيلةِ غُذَّيتْ
وَتَعشَّقتْ لِلفَضل كُلَّ ذِمَامِ
لَم تُنكر المألوفَ مِن أَعرَافِنا
فِي زِيِّهَا المسْتورِ شِبهَ حَمَامِ
أَفديكَ يَا نَفحَ الطُّيوبِ بِمُهْجَتي
وَأَهيمُ مِنكَ مُنَعَّماً بِغَرامِي
(بُوْمنجلٍ) ثَارتْ عَليكَ جَحاَفلٌ
وَعَدَتْ عَليكَ بِجَورهَا الهَدَّامِ
فَرَمتْ رُبُوعَكَ بِالخَرابِ وَشَوَّهتْ
آثاركَ الحَسناءَ بِالإيِهامِ
وَبُيوتُكَ البَيضاءُ فِي لَأْلَآئها
كَالَّلوحةِ الزَّهراءِ مِن رَسَّامِ
حَمَلتْ بَهاءَ الأَتْقياءِ وَزُيِّنتْ
بِطَهارةِ الأَشياخِ فِي الإِسلامِ
أَينَ الطَّريقةُ فِي الخَميسِ نَحُوطُهَا
بِنَقاوةِ الإِيمانِ بَينَ كِرَامِ
فِي لَمْحَةٍ مِن نَاظِريكَ تَصَرَّمَتْ
أَحلامُنَا الخَضراءُ كَالأَوْهَامِ
فَدَنَا العَفَاءُ عَلى الدِّيارِ يَمُضُّهَا
وَعَلى القَلوبِ يَشُكُّهَا بِسِهَام
ِ
عَجبًا لِنَامُوسِ الحَياةِ يَروعُنا
فِي دَارِنَا مِن بَعدِ ذِي الأَعْوَامِ!!
ِ
فَتَفَرَّقَ السُّكانُ عَن عَرَصَاتِها
وَكأنَّها مَا عُمِّرتْ بِوِئَامِ
طُمِستْ عَلى أَيدي الخُطوبِ كَأَهلهَا
وَبَقيتُ فِي سَرْحِ الحَياةِ الظَّامِي
2 تعليقات
يالجمال هذه القصيدة
نص فيه الكثير من الجمال والإبداع
رحم الله الدكتور جبران، وأسكنه فسيح جناته.
نشكر مرورك الكريم