محمّد نجيب عبد الكافي
… بناة الاقتصاد
ذكرت بعضا من أبنائي وأصدقائي الطلبة، وكنت أميل إلى المزيد لكن ضيق المجال وسرعة العصر يجبران على الاختصار، كي لا أقول السطحية. قد يصيب النقص أيضا حديثي هذا فيتكرّر التقصير، فأكون قد أسأت من حيث أردت النّفع. لأنّ الذين سأتحدّث عنهم كثيرون، وهم ليسوا دون من وصفتهم ببناة ومشيّدي ليبيا الحديثة، إذ هم لا يقلّون عن أولائك وطنيّة، ولا إخلاصا، ولا صدقا، ولا جودا وكرما. ساهموا في صمت وصبر، بعيدا عن التظاهر، في إخراج الوطن من الفاقة والرّكود، فكانوا عُمَد النهضة الاقتصادية. سدّوا الفراغ الذي أحدثه خروج المستعمرين، وأحدثوا أنشطة جديدة لا عهد لليبيا بها، ومع الأيام طوّروا وحسّنوا ووسّعوا وسائل عملهم وإطاره. عملوا بصدق وإخلاص ومثابرة، دون أن ينسوا ما في الليبي من جود طبيعي وتديّن راسخ، فيصحّ عليهم قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.
– محمد السنوسي جبر
سأبدأ بذكر رجل طريف خفيف، رغم جسمه الضخم، حلو المعاشرة لطيبته ودماثة أخلاقه وحبّه الخير وأهله. ولج ميدان، بل ميادين، عمل جديد من نوعه، إذ لم يكن يشغله إلا الأجانب وبقلّة، أعني الملاحة البحرية والجوية، ووكالات الأسفارأي السياحة. كان من أوائل مؤسسي المصانع فهذا للماكارونة والآخر للمياة الغازية، وغير هذا من النشاطات التي جعلت منه رجل اقتصاد مرموق. إنه طيب الذكرالسيد محمد السنوسي جبر، الذي سعدت بمعرفته في وكالته للأسفار، الوكالة الممتازة بالإتقان والجودة والجدّيّة في العمل. عُرف السيد محمد السنوسي جبر، إلى جانب حسه التجاري ونجاحه فيه، بمشاعره الوطنية التي ورثها دون شك عن والده الذي نفاه الطليان ثم سجنوه لنشاطه الجهادي. عرف الإبن بحبّ الخير والجود الذي له فيه ما يُذكر فيُحمد. لكن ما قد لا يعلمه الكثيرون، هو ما قدّمه لغير الليبيين من المجاهدين والمناضلين. ضمن أعماله الخيرية، سرعة توظيفه لآحد رفاقنا اللاجئين التونسيين هو الهادي شقير. كان أحد خمسة عذّبوا واعتُقلوا بالسجن العسكري بالقصبة بتونس، حيث بوقوا منتظرين تنفيذ الحكم، ففرّوا وبعناء وصلوا ليبيا. وظفه السيد محمد السنوسي جبر إلى آخر أيامه. ما هو أغرب، هو أنه عرّفه بقبيلته أو بأخرى، لست أدري الآن، فاحتضنت الهادي وتبنّته فصار يُعتبر فردا من أفرادها. أبعد هذا ما يُقال أو يُضاف؟
– الهادي المشيرقي
رجل آخر، من خيرة رجال ليبيا، أصبح اسمه مقرونا بالجزائر وثورتها، لما قدّمه من مساعدات وتأييد. لكنه، قبل الجزائر، ساعد تونس ومقاومتها ومقاوميها. أفعاله كثيرة، لكن يكفي التذكير بأنّ إحدى سننه في هذا السياق، هو أن لا لاجئ أتى من تونس أو من الجزائر إلا واستضافه عند وصوله صحبة رفاقه في نزل المهاري الذي كان تابعا له. قد يطول الحديث عن الهادي المشيرقي إن أردنا ذكر مجمل أعماله الوطنية، لذا سأقتصر على الجانب الاقتصادي، الذي ممّا يلفت إليه النظرفي هذا القطاع بالذات، دخوله هو الآخر مجالا كان حكرا على الأجنبي، وهو ميدان الفنادق وإدارتها. تسلّم فندقي المهاري والكبير، وأدارهما وأدخل عليهما التحسينات فأصبحا، مع الودّان، ثالوثا ازدانت به عاصمة الدّولة النائشة، السائرة نحو ما يصبوه أبناؤها من عزّ ورفاه. وظف هو الآخر بعض اللاجئين التونسيين، ثمّ الجزائريّين، وكان من الذين فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ومن الذين حرصوا على تطوير أساليب العمل الزراعي، وأنواع منتوجاته فحقّقوا الكثير.
بالذاكرة المزيد فلي عودة إن طال العمر.