الحرب. من اختيار الكاتب ناصر سالم المقرحي.
المقالة

ليس للحرب إلا وجهٌ واحد

أكثر الناس تضرراً من الحروب وتأثراً بنتائجها الكارثية هم الأباء والأمهات، هذا مما لا شك فيه، وأشد ما تكون الحرب ضراوةً وألماً على الامهات، ذلك أنَّ حُزنهنّ ووجعهنّ مضاعف، فإلى جانب الخوف على حياتهن يخشون أن يطال الأذى أبنائهن، بل أن الخوف على الأبناء قد يتخطى الخوف الشخصي ويجعل منه مجرد شعور عابر وغير راسخ، ويتجلى هذا في المواقف التي تتطلب تضحيات حقيقية فكثيرا ما يحدث أن يُضحي الاب أو الأم بحياتهم في سبيل ألا يلحق الاذى أو يطوي الموت أحد أبنائهم، وفي الحروب والمواجهات المسلحة ترى الواحد منهم محتضناً أبناءه أو واقفا كحاجز بينهم وبين القذائف التي تزرع الموت، وكلما كانت سن الأبناء أصغر كلما تعاظم الخوف واشتد الذعر وضاقت نفس الأم التي قد تتحول إلى كتلة من الخوف كلما شاهدت خوف أبناءها الذين لا تملك أحيانا إلا أن تشد من أزرهم بكلمات مشجعة وباحتضانات حقيقية في حين اشد ما تكون هي الأُخرى في حاجة إلى كلمات المؤازرة والدعم النفسي، فالأم قد تُلقي بنفسها إلى التهلُكة درءاً لخطر يحيق بأبنائها والمواقف أكثر من أن تُعد وتُحصى في هذا السياق، سياق الحرب حيثُ الذعر والرعب أشياء تكاد تُلمس باليد وتعابير تتقنع بها الوجوه أغلب الوقت.

الحرب. من اختيار الكاتب ناصر سالم المقرحي.
الحرب. من اختيار الكاتب ناصر سالم المقرحي.

وتقبض الصور المرفقة على لحظات من هذا الرعب المستطير وينعكس ذلك تحديدا في النظرات الزائغة والتيه الذي تنطق به العيون، والهلع المرتسم على وجوه الأطفال، ذلك الرعب الذي لم تستطيع الحضارة – رغم تقدمها – من محوه وجعله شيئا من الماضي، فلا زالت الحروب تندلع رغم كل شيء ولأتفه الأسباب أحيانا ولا زالت العداوات تنشأ، بل أن شهوة القتل لا زالت مستعرة والذين يموتون بلا جريرة ولا ذنب ارتكبوه أكثر بكثير من الذين يموتون جراء أفعالهم الشريرة، والموت يختار دائما ضحاياه من الأبرياء الذي يموتون دون سابق إنذار فقط لأن آخرون من نفس طبقتهم أو طائفتهم ارتكبوا ما يستوجب العقاب أو حتى الموت ويدفع الأبرياء الثمن.
ليس للحرب إلا وجهُ واحد هو وجه الرعب والذعر وجه الخوف والموت والدمار حيثُ تُفلح الحرب دائما في رسم مشاهد الخراب والموت وتُجيد أبداً تجسيد مناظر الجثث المتفحمة والبيوت المهدمة والأشجار المحترقة.
ويوثق المصورون كل هذا ويشاهده العالم غير أنَّ الإنسان لا يتعظ ولايرعوي فما أن تنطفئ الحرب في جهةً ما مُخلفة ندوبا، وجروحا غائرة حتى تندلع في مكان آخر طازجة وعفية كما لو أنها تندلع للمرة الأولى بكامل ضراوتها وحرائقها التي لا تُبقي ولا تذر.

تقول الكثير هذه النظرات اليائسة والوجوه التي يكسوها الأسى والخوف وفي صمتها المدوي تُدين العالم وتُدين الإنسانية التي تسمح بحدوث هذا الرعب، وفي رعبها الصامت توجه رسالة للبشرية كافة مفادها ان ليس للحرب إلا وجهٌ واحد هو وجه الخراب والدمار وجه الموت الزؤام.
ففي الصورتين المرفقتين وفّقَ المصوِرين في توثيق لحظة فارقة من لحظات الإنسانية فوق هذه الأرض وبعملهما هذا قاما بتثبيت اللحظة وتمطيطها إلى ما لا نهاية وتمديدها في الزمن لتبقى شاهدة على سلوك وحشي سلكهُ إنسان ما في زمنٍ ما في مكانا ما، وما كان لهاتين الصورتين ان تتحققا لو لم يكن الرعب عظيما والخطب جلل فلا تمثيل هنا ولا افتعال ولو لم يكن الفنانان مستعدين وحاضران في الوقت المناسب واللحظة المثالية في محاولة تنتصر للحياة وتدحض الخراب فكأن الصور إذ تخاطب الرائي تقول له ضمن ما تقول،” أنظر جيدا وتمعن، هذا بعض مما تفعله الحرب فهل ستستمر في إثارتها “، ولعل ضمير حي تحرك فيه الصور شيئا ويتجنب الحرب إذا ما كان قرار اندلاعها بيده أو يستعيض عنا بوسائل أخرى أكثر إنسانية ورحمة، ذلك ما تعبر عنه صورة المرأة الهاربة من الجحيم بشعر غير مُرتب وبأقدام حافية – على غير عادة المرأة في الأحوال العادية، أو في زمن السلم – وتشد بقوة على أيدي أطفالها المرتعبين، فيما تنطق صورة الأب الذي يصارع البحر ويحاول انقاذ طفله أو طفلته من الغرق بعد أن زج بها في قوارب الموت خوفا وهربا من مصير غامض يتربص بالحياة في الوطن بحثا عن وطن بديل تتوفر فيه أقل ما تتطلبه الحياة من المأكل والمشرب والأمن والعمل، تنطق بما لا تستطيع الكثير من الكلمات والخُطب التعبير عنه وقوله، إذ يكفي أن تنظر في عيني الأب كمشاهد حتى ينتقل إليك شعور الرعب والذعر وحينها لا تمتلك إلا أن تلعن العالم الغارق في ملذاته والغافل عن المأساة وتشتم الإنسانية التي لا تتحرك إلا لمواقف دون مواقف، هذا أقل ما يمكن أن تفعله تضامنا وتعاطفا مع الضحايا.

الحرب. من اختيار الكاتب ناصر سالم المقرحي.
الحرب. من اختيار الكاتب ناصر سالم المقرحي.

ومن جانبه اختزل الفنان الذي رسم اللوحة المرفقة كل ما أراد قوله، في نظرات الشخوص الموجودة بها، وكل من يرى اللوحة ستصله الرسالة في ثوانِ معدودة، وهذا يؤكد قدرة الفن على خدمة الحياة ومحاولة تغييرها للأفضل وللأحسن، فكل لوحة او عمل موسيقي او نحتي أو مسرحي في تصوري يقلص من مساحة القبح الموجود في العالم ويقلل من منسوب الشر فيه وعلى الفنان أن يعي هذه الحقيقة وهو يمسك بريشته او يتقلد آلته الموسيقية أو يشرع في نحت عمل فني حتى تكون المتعة أكبر والفائدة أعم.

مقالات ذات علاقة

مقتل عبدالسلام المسماري: الخوف يعود إلى ليبيا

هشام مطر

بورتريه لمنظر طبيعي

محمود البوسيفي

ليبيا وبر الأمان

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق