المقالة

الخلاص من الأمل

بوابة الوسط

مثلما تحدث في السجن حالات أو محاولات، هروب، كذلك تحدث حالات، أو محاولات انتحار، وطبعا يكون حظ “نجاح” محاولات الانتحار (التي هي هروب من نوع آخر، هروب إلى العدم) أوفر من نجاح محاولات الهروب. إحدى محاولات الانتحار “الفاشلة” كانت من قبل صديق لي ورفيق محنة.

أذكر قبل أن يقفلوا أبواب الزنازين علينا ذات مغرب جاءني. كان متوترا ومتضائقا. طلب مني ورقة، أو قلما (لم أعد أذكر). كتب شيئا بعجالة. أخذ الورقة (التي كانت ورقة تبغ أو شيء آخر، إذ لم تكن توجد تحت تصرفنا كراسات) وذهب.

بعد غلق الأبواب بقليل، في الليل، سمعت أحد الرفاق في القضية ينادي من زنزانته شخصا معينا موجودا في الزنزانة التي بها الشخص المعني طالبا منه الانتباه إليه والاهتمام به. بعدها بساعات، أعلن شخص مقيم في زنزانة الشخص المعني أنه حاول الانتحار، وينبغي أن نطرق الأبواب بشكل جماعي كي يأتي حراس السجن وينقذوه.

أفتح الآن قوسين لأشير إلى ما يسميه فرويد زلات القلم Slips of pen. حيث يرى فيها تعبيرا عن مكبوتات في اللاوعي، وبغض النظر عن احتمال المبالغة، يبدو أن الأمر يستحق الاعتبار. أعود الآن إلى الحادثة التي بدأت بها. لاحقا أطلعني الصديق والرفيق الذي طلب الانتباه والاهتمام بالصديق والرفيق المعني على الرسالة التي كتبها هذا الأخير بحضوري، (دون أن يطلعني عليها) وسلمها إلى الصديق والرفيق صاحب التنبيه.

ما لفت نظري مما ورد في الرسالة قوله:
“ما أنا متأكد منه هو قدرتي على عدم الاحتمال”!. لم يقل “عدم قدرتي على الاحتمال” وإنما عكس الأمر بحيث أصبح “عدم الاحتمال” لا يدل على “عدم القدرة” وغيابها، وإنما يدل على وجودها. ثمة قدرة صامدة، ليس على الاحتمال، وإنما على عدمه. وبمعنى آخر على إعدامه. إعدام الاحتمال وإزاحته بالهروب منه والخلاص من معاناته بالهروب منه نحو العدم. لكأن هذا الشخص يرفض في أعماقه الاعتراف بالهزيمة المتمثلة في انتفاء وجود القدرة على الاحتمال. أبدا. قدرته باقية وموجودة. لكنها قدرة على عدم الاحتمال. قدرة على احتمال إنهاء حياته بنفسه والهروب نحو العدم. إنها قدرة على احتمال العدم. تمثل حالات الهروب العادي فرارا نحو الأمل بالحرية وحياة أفضل من حياة السجنن حتى ولو اتسمت هذه الحياة بالمعاناة. لكن حالة الهروب عن طريق الانتحار تمثل خلاصا من الأمل، الذي لا يمكن الخلاص منه بالبقاء على قيد الحياة.

هذا يذكرني بما يروى عن اللحظات الأخيرة في حياة بوذا.
كان بوذا يرسم طريق الخلاص من الدورة الأبدية للموت والعودة إلى الحياة مجددا، عن طريق المجاهدة للوصول إلى حالة الاستنارة الكاملة والفناء الكامل: النيرفانا. فالذي يموت عند هذه النقطة يضمن عدم عودته إلى الحياة مجددا ومعاناة آلامها ومتاعبها. وعندما جاء الجنود للقبض على بوذا وجماعته تحت الشجرة التي كان يلقي تعاليمه في كنفها طلب من أتباعه الفرار وظل هو ثابتا. بقي معه أحد تلاميذه يحضه على النجاة. لكن البوذا رفض. قال التلميذ: الآن فهمتك. أنت بعزمك على البقاء هنا تريد الخلاص من الخلاص!.

مقالات ذات علاقة

الريح تداعب شعرها….

المشرف العام

أين ليبيا التي عرفت؟ (24)

المشرف العام

لو لم يكن رضوان بوشويشة ما كانت طرابلس الغرب*

أحمد الفيتوري

اترك تعليق