المقالة

فن الكتابة الملونة

«اضرب يزيد ولا تزد» إنها من النصائح العربية لفن الكتابة، المقصود بها التكثيف والابتعاد عن الإطناب. ولكنني لم أقرأ لكاتب عربي وسيلة عملية وبسيطة لتحقيق هذه الغاية، سوى صادق النيهوم، الذي بعثها في رسالة، من 14 صفحة إلى صديقه خليفة الفاخري، الذي لم يبخل بها على أحد فكانت كمنهج استفدت منه شخصيا الشيء الكثير.

الغرب لم يقل نصيحة مشابهة، بل كانت معظم مقالات كُتابه في العصور الوسطى، يصل عدد صفحاتها لتكون نواة لكتاب بالحجم الصغير.

«ميشيل دي مونتين 1533/ 1592» أشهر كاتب مقالة في عصر النهضة الأوربية، بل يعود له فضل الريادة في كتابة المقال، قرأت له مقالاً طوله 40 صفحة من القطع المتوسط يتحدث فيها عن «فن الحديث» تناول في صفحاته الخمس الأولى رأياً، خلاصته: «إن العقلاء يتعلمون من الحمقى أكثر مما يتعلم الحمقى من العقلاء، وإنه يتعلم من أخطائه وليس من نجاحاته».

أنا متفق معه تماماً في رأيه، بل وأعجبني كثيراً، وأعترف أنه لم يخطر في بالي أبداً أن أجعله موضوعاً لمقالي الأسبوعي الذي لا يتعدى نصف صفحة، أي نحو 600 كلمة، مع العلم أن 40 صفحة تصل كلماتها إلى عشرة آلاف كلمة!

المقال ورد بكتاب «روائع المقال» الذي أعده الناقد (هوستون بيترسون) وترجمه يونس شاهين، وأصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب. وسنحاول، معا، مناقشة ما يهمنا منه في مواضيع لاحقة فقد نجد فيها ما قد يطور أسلوبنا وفن حديثنا.

«اضرب يزيد ولا تزد» عبارة التقطها الغرب وطورها واختار لها وسائل ومنابر إعلامية سيطر بها على كتاب العالم أجمع وعقول قرائه، بل وفرض عليهم من دون أن ينتبهوا أن يكثفوا ما يكتبون.

بدأت الشبكة الساحرة، التي لم تعد مجرد عنكبوتية، بمشروع المدونات، ولقد قرأت منها كتباً لأصدقاء قبل أن ينشروها! ثم انتشر «الفيسبوك» وطور المدونة، ثم ابتكر «تويتر» وفرض التلخيص والتكثيف، وظننت أنها نهاية المطاف، أو بمعنى آخر أفضل وسائل «فن الحديث».

منذ مدة قليلة انتبهت إلى بدعة من «فيسبوك»، إنها تلك المربعات الملونة، والمرسومة بفن وذكاء لتتوافق مع مناسبة الكلام، سواء أكان عاطفياً أم ساخراً أو حزيناً، أقصد تلك التي تعرض نفسها عندما تكتب «بوست» فتكون وردية برسومات قلوب صغيرة، ولكنها لا تناسب رثاءً مثلاً أو قولاً حزيناً، فتختار له تلك المصممة بلون أسود، أو إن كان مناسبة ربيعية تختار لها أزهاراً واخضراراً.. وتلك المساحات بدأت تتسع وتغريك بالفعل لاستخدامها، ولكنها مصممة بحيث تكون كلماتك محددة، فما إن يزيد عددها عما هو مقرر لها حتى يضيع المربع الملون وتعود الصفحة البيضاء لأولئك المعجبين برائد كتابة المقال «دي مونتين» مثلاً!

لقد استفدت شخصياً من هذه التقنية الملونة، أكتب على سبيل المثال، خبري كاملاً، فيختفى مربع التلوين، فآخذ في إلغاء الكلمات الزائدة، وأختصر وأكثف حتى يعود المربع الملون. ولقد أخبرت عديد الزملاء المحررين، وابتهج كثيرون من فائدته وأخذوا يقدمونه إلى رئيس ديسك أخبار”بوابة الوسط” ولا يزيدون! فهم يعرفون أن رئيسهم يعمل برأي أستاذ الموسيقى الذي فرض على تلاميذه حضور حصة مع موسيقي فاشل حتى يتعلموا الاشمئزاز من نشازه فيبتعدوا عنه.

فهل هناك ما يحتاجه مقالي هذا من زيادة؟ نعم.. ولكني أريد لمقالتي مربعاً ملوناً؛ أما الزيادة فسأكتب لها مقالة أخرى حتى لا أفقد الألوان!

_____________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

الهياكل الشعرية

نورالدين سعيد

الصحافة المغدورة (2-2)

أحمد الفيتوري

لِيَسْتَـقِـرَّ الْعَرَبْ

المشرف العام

اترك تعليق