اعتدت أن أقضي أياما في بيت جدتي لأبي أثناء العطلة الصيفية، وكانت إحدى بناتها (عمتي) تجاورها في السكن.
جرت العادة عند الظهيرة، أن تخف حركة السيارات وتوصد الأبواب وتخفت حركة الشارع، وتنكس المظلات طلبا للظل.
بعد أن تقبض على شريط “السرانتي” وتجذبه نحوها فينزلق مطواعا في يدها، تتقي به الضوء، ويغشى غرفة الجلوس غبش شفيف، تستلقي جدتي عقب الغذاء على جانبها وتتوسد ذراعها على “المندار”، تضم ساقيها وتستدعي النوم للقيلولة… أشعر بدبيب القلق والضجر يتسلل إلى نفسي.. استأذن جدتي في الذهاب إلى بيت عمتي القريب.. تضطرب جدتي وتقول لي وهي تراقص النوم وبلسان مثقل “حيه عليك تطلعي توا تجيك عزوزة القايلة وسلاّل القلوب”.
انتفض رعبا وأتمدد بالقرب منها وأتخيلهما وهما يجريان خلفي.. لا تزيد جدتي في القول لتصفهما أو تبين ما يفعلاه بالصغار أمثالي.. يطرق شخيرها أذني وقلبي ثم يعلو ويستوي على ذات الوتيرة في الغرفة شبه المظلمة، فأزداد خوفا..
أتخيل “عزوزة القايلة” عجوز بطبيعة الحال، طويلة وضعيفة البنية بظهر محني، ذات وجه طويل وأنف معقوف وفم فاغر فقد أسناناً كثيرة، ترتدي رداءا مهملا داكن اللون دون “فراشية”، حاسرة الرأس ومهملة الشعر، ، تلهث بين الأزقة وفي الشوارع تبحث عن الصغيرات مثلي. أما سلاّل القلوب فأراه رجلا بكامل قواه، بحاجبين كثين وشفتين غليظتين يقترب مني وهو يمد يديه كالساحر و يقتلع قلبي من جوفي، فأضع يدي على صدري وكأنني أحميه.. الغريب أنني لا أتخيلهما في مشهد واحد بل في سلسلة مشاهد متحركة أراها بعيني وقلبي.. ارتعب.. أغلق عينيّ وألجم جماح خيالي وأدفع بنفسي للنوم قسراّ.
أنهض فزعة على صوت جدتي.. “هيا نوضي نمشوا لعمتك”….
حكت لي أمي أن أمها (جدتي) كانت تقول لها وهي صغيرة أنها تملك عينين مثبتتين خلف رأسها تتبعها بهما أينما ذهبت…
أما أمي فكانت تحكي لنا عن ” العصفورة” التي تأتي إليها بين الحين والآخر وتسر إليها بأفعالنا خاصة في المدرسة…وبفضل هذه العصفورة التي اقتنعنا بها وآمنا بوجودها وصدقنا أقوالها.. ترسخت علاقة جميلة مع أمي، فلم نخفي عنها تفاصيل يومنا.. إذ أنها لا محالة ستعلم بكل شيء، لذا كان من الأفضل أن نُعلمها و نستبق العصفورة إليها.
استعرت “العصفورة” من والدتي واستخدمتها كما استخدمتها دون مبالغة مع بناتي..
ها هي الصغرى “رند” وهي تتسلق عامها العاشر، بدأت تنتابها بعض الشكوك حول قصة “العصفورة” والأخبار التي تلتقطها وتأتي بها إلى عُشي، وهي في عمومها غير سارة…
“رند” تتعامل مع الحاسوب وتصدق العصفورة!
ذات يوم .. ما أن فتحت لها الباب عقب عودتها من المدرسة، سألتني “هل زارتك العصفورة اليوم؟” وبحدس الأم أجبتها،
– طبعا زارتني وأخبرتني كل شيء.
– ماذا قالت لك؟
-هل افصح لك عما قالته أم أنك تفضلين أن تحكي لي مباشرةً؟ هكذا روت لي “رند” عن بكائها في ذلك اليوم والسبب من ورائه. كنت أهز رأسي مع حكايتها وأظهر تفاعلا معها وكأنني على علم مسبق بها. هكذا اصطادت الأم فيّ عصفورين.. عصفور خيالي يقطن ذاكرتي ويشكل حيلتي، وآخر حقيقي بين يدي يحكي لي بتلقائية وصدق.
اليوم فاجأتني ابنتي “ياسمين” التي تبلغ العشرين ربيعا، حين رفعت رأسها من وراء شاشة حاسوبها، وقالت لي مبتسمة…
“تعرفي ماما لما بنجيب صغار بنستعمل معاهم “العصفورة”… مفيدة هلبه”!
علت ضحكاتنا بعد أن حكت لي عما فعلته بها “العصفورة” والأسرار التي اضطرت لإفشائها لي!
ما بين “عزوزة القايلة” و “سلّال القلوب” و”العصفورة” حكايات جمّة، وشفاه تتوارثها، وأجيال تنسجها، وسيل من الذكريات التي قد تسقط من ثقوب الذاكرة.
_____________________________
21 أغسطس 2018