المقالة

كندا كانت كليبيا

أول هذا الشهر احتفلت كندا بمرور 140 سنة على عيدها القومي. لقد تنبأ عدد من السياسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن كندا ستصبح آجلا أو عاجلا ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية، مؤسسيين وجهة نظرهم على واقع حال الكنديين في ذلك الوقت معللين ومؤكدين استحالة اندماج الفرنسيين الكاثوليك الذين كانوا يشكلون نسبة 30% من السكان، مع بقية البريطانيين البروتستانت، ناهيك عن الاختلافات الثقافية بينهما.

فعندما انتهى الصراع الطويل سنة 1759 بين بريطانيا وفرنسا للسيطرة على أمريكا، اعتقدت بريطانيا أن الفرنسيين الكاثوليك سوف يقبلون بالكنيسة البروتستانتية، وباللغة الإنجليزية، وما يصدره البرلمان الإنجليزي في لندن. والآن، وبعد هذه السنوات تحقق جزء من نبؤة أولئك العلماء، وهو استحالة اندماج الفرنسيين الكاثوليك مع البريطانيين البروتستانت ولكن في الوقت نفسه تحقق توافق قوي جدا بين العنصرين وبالتالي أصبحوا جميعا مواطنين كنديين.

صارت كندا بفضل التوازن ما بين هذه الثقافة الفرنسية الأقل عددا من الثقافة البريطانية أكثر قوة وثراء مما كانت عليه
بل صارت كندا بفضل التوازن ما بين هذه الثقافة الفرنسية الأقل عددا من الثقافة البريطانية أكثر قوة وثراء مما كانت عليه. علينا، نحن الليبيين، ألاّ ننسى أن هذه الثنائية، التي كانت مصدر تهديد لدولة كندا بالانقسام فأصبحت مثلما نرى، سبب في توحدها وقيامها ونجاحها.

فماذا حدث؟

تقول المصادر أن الفرنسيين اتخذوا، ليلة رأس سنة 1775، قرارا حاسما، وهو انضمامهم إلى البريطانيين لمحاربة الثوار الأمريكيين الذين حاصروا (كويبك) الكندية. هذا القرار كان من أقوى الأسباب في بقاء كندا دولة موحدة تمكنت من تذليل صعاب الاختلاف بين ثقافتها وبالتالي أصبحت من البلدان التي حققت تقدما جعل منها الأسرع، والأكثر نموا اقتصاديا في العالم.

ولعله بسبب هذا القرار الذي اتفقت فيه الثنائية على الانضمام إلى بريطانيا لمحاربة ثوار أمريكا، هو ما جعل بريطانيا تنفذ، أثناء الحرب العالمية الثانية، واحدا من أخطر قرارتها، فلقد أصبح “العدو أمامهم والبحر خلفهم..” فبعدما سقطت باريس يوم 14/ 6/ 1940 في أيدي النازيين، وأصبح بحر المانش هو ما يحول بينهم وبين جيوش هتلر، جمع تشرشل وزراءه، بعد سبعة عشر يوما فقط من سقوط فرنسا، واتخذ قرارا ظل سرا من أسرار الحرب العالمية الثانية حتى سنة 1957. بعد اتخاذ هذا القرار بعشرة أيام أبحر الطراد (ايمرالد) من ميناء (جرينلوك) باسكوتلندا، يقوده القبطان (فرانسيس سيريل فلاين) يحمل شحنة (سمك)!.

وما إن وصل الطراد ميناء (هاليفكس) حتى حُملت الشحنة في قطار كان ينتظرها، وفي اليوم التالي لعيد كندا القومي سنة 1940وصل القطار محطة (بونافنتور) بمونتريال بكندا. ولكن الشحنة لم تكن سمكا وإنما أرصدة بريطانيا السائلة من ودائع وسبائك ذهبية هي ثروة بريطانيا كلها، نقلت تحسبا لمحاربة النازيين من الخارج إن احتلوا الجزر البريطانية.

يقول البحاث أن “إرادة البقاء” هي وراء وحدة كندا وعدم انقسامها إلى دولتين على ضفتي نهر( أوتاوا)، وسبب ذلك هو الضرر من عبث الاقتتال ما بين ناس يعيشون في بقعة غنية واحدة، أما السبب الثاني فهو الدستور الذي أُعد ليخدم ويحمي حقوق الطرفين، خصوصا وأن لكل منهما قناعة بمذهبين دينيين مسيحيين تحاربا طويلا ولم يكن من حل بينهما سوى قبول الآخر.

الخلاصة مما وصلني شخصيا من (حالة) كندا، هو أنهم تطوروا سريعا بسبب صناعاتهم وأصبحوا دولة كبيرة حققت اقتصادا أخذهم بلادهم إلى ضفاف الرخاء والسبب: أنه ما كان لهم ألاّ يتعرضوا إلى غزو خارجي، ويتواصل قيام دولتهم لو لم يتغلبوا على الهوة الكبيرة التي تفصل بين قناعتيهما وثقافتيهما. لقد منحوا الحياة إلى طرفيهما فازدهرت بلادهما من دون أن تسيل دماء ويكثر مبتورو الأطراف، والعوانس والثكالي.. واللصوص مثلما حدث عندنا.

بلادنا تشبه إلى حد كبير كندا، بفكرين دينيين مرتبطين تماما بدين واحد، مثل كندا، في ليبيا نحن جميعا مسلمون: طرف يريد دولة مدنية دينها الإسلام، وجيش يحميها وطرف ثان يريدها دولة إسلامية وكفى. ومع ذلك بالإمكان أن يعيش الطرفان وفق قناعاتهما وسوف ينتهى الأمر باقتناع أي من الطرفين بالآخر.. وما علينا إلاّ أن نؤسس لدستور واضح يضمن حقوق الجميع.

كانت مشكلة ليبيا قبل الاستقلال مشابهة إلى حد كبير ولكنها لم تكن بسبب رؤية دينية، كانت أبسط بكثير مما نعانيه الآن، فاتفقوا على قيام دولة فيدرالية من ثلاثة ولايات وحكومة اتحادية، مثلما يحدث في العديد من بلدان العالم. فلماذا لا نتفق على ثلاث ولايات، أو أكثر وحكومة واحدة اتحادية، ويستمر الحال إلى أن ننضج ويتمكن أي طرف من الأطراف بإقناع الطرف، أو الأطراف، الأخرى ونعود دولة من كيان واحد. الأمر لا يحتاج إلاّ إلى تفكير في مغبة ما قد يحدث لو استمر هذا العناد؟!.

________________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

من أبقار الجرمنت إلى مزيج برنت

منصور أبوشناف

أسطورة الرمز في القرآن

سعود سالم

في الكتابة وما نكتب

يوسف الشريف

اترك تعليق