لا يمكن فصلُ المكان، طرابلس في كتابات علي حُسنين عن تذكاره وقد صار شارعه في مدينته، فيكتب عنه، ودافعه حنينٌ إلى مرتع صباه حيث شاءت الأقدار أن يحل به وهو في السابعة من عمره، تاركا شارع ميزران مسقط رأسه ورأس كل من أبيه وأمه وأخوته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته. وقد انتهت رحلته بالمدينة إنساناً مسعاه الأنجح إعادة تشكيل العالم الذي عاش فيه بإرادة أبوية كل ذاك العمر، بأن صار معيشه وفق رغبات قلبه، وهوى روحه.
فالمدينة التي تبتدئ مكاناً وتنتهي إنساناً في السيرة هي العالمَ الذي يخلقه الكاتب، فيصبح مكانه أو بالأحرى الحيّز الذي حُكِمَ عليه بالعيش فيه. فيكتب في “شارع كوشة الصفّار بين ذاكرتين” “ولما زارنا أبي للمرة الثانية في سنة 1931 لاحظ ازديادَ عددِ الأسرِ الايطاليةِ المقيمةِ في أرجاء البلاد ولا سيما في منطـــقة شارع ميزران الأمر الذي جعله ينقلنا قبل مغادرته (إلى مغتربه تاجراً في أفريقيا) إلى (حومة المسلمين) – على حد قوله – داخل أسوار المدينة القديمة حيث استأجر لنا البيتَ رقم 5 بزنقة المُكّني المتفرعة عن شارع كوشة الصُفّار“.
الكتابة عن شارع تمتد منه أزقّة تتقاسم اسمه الكوشة (مخبز) والولي سيدي الصفار، لايتعلق بستاتيكية المادة في المكان (المدينة) بقدر مايتعلق بدينامية الإنسان في حالة التَمدْيُن، وهو فعل تحويل يتعمد لامحالة ممارسة القوة الجمعية لإعادة تشكيل عملية التَمدْيُن بتبديل أسماء المُسميات. فمدينة طرابلس القديمة وأزقتها – أسوة بما يحدث لسواها في مدن العالم الأخرى- عرفت بالتداول والتواتر بين الأجيال المتعاقبة التي كانت تقوم – تلقائيا وحسب ظروفها – بتغيير أسمائها واستبدالها. فنجد اليوم لبعض منها اسمين أو أكثر. ويضرب مثلا بالتحول في التسمية من المادة والكم زنقة المجر إلى الكيف (الصفة) زنقة المرابط إلى نسبتها لاسم العَلَمْ بريون. أيضاً، زنقة العربي قُصرت على اسم القاجيجي. كما لايمكن فصل مسألة نوع المدينة التي نرغبها، لنعيش فيها، عن نوع العلاقة مع الطبيعة، فتتبدل العلاقة بقرار الأب المترحل إلى نيجيريا، نقل عائلته من شارع الزاوية والتي هي ضمنا زاوية الوليّ خليفة ابوغرارة، الذي تبدّل باسم ميزران الثري الليبي من أصل تونسي الذي بنى الجامع. وهو الشارع المفتوح على ريف حُسم أمر كولونته استعمارا إيطالياً برقم 81.
في نمط الاقتصاد الرأسمالي تعتمد عملية التَمدْيُن على تحريك العملية الاقتصادية: حسب المنحنيات اللوجستية: رأس المال والمنتوج والعمال. باستخراج أصحاب الرأسمال فائض إنتاج لكي يستخرجوا (يُبزلوا) منه فائض قيمة، والذي بدوره يجب أن يُعادَ استثمارُه لتوليد فائض قيمة إضافي. ونتيجةُ إعادة الاستثمار المستمر هي توسيعُ فائض الإنتاج بمعدّلٍ رسملة مركب، يوازيه توّسعٌ في التَمدْيُن.
مقابل هذا النمط يمكن وصف التمدين الذي ترصده سردية مؤرخ الثقافة الليبية علي حُسنين للحياة في المدينة القديمة، من عشرينيات القرن الـ 20 حتى ستينياته، بأنه تَمدْيُن المجال فيه قيمي، ونعني العملية التي يُطلق عليها مخططو الاقتصاد اسم “الحلقة المفرغة” المؤسسة لقاعدة التخلّف المادي، التي يتستر فيها الفقر وراء عناصر اقتصاديات الكفاف، وفي المقابل تُظهر نمط الجمود المادي الذي ينشأ فيه توازن بين الاقتصادي أو بالتعبير الخلدوني “المعاشي”، وبين الاجتماعي، يشكله توازن بين إمكانيات الفرد ومتطلباته، حيث يتمتع الفرد بنعمة الاطمئنان الذاتي التي تسميها الأدبيات الأخلاقية “القناعة “.
ففي أي اقتطاع جزافي من السرد تقابلنا هذه الوصفية المتنقلة لشاغلي المحلات فعلى “الناصية اليسرى لزنقة العيّان يقع مشغل الأسطى محمد بن يوسف وابنه محمد (كُرزُم) اللذين كانا يزاولان حياكة الحوالي النسائية الصوفية نحو حولي الضامة و حولي المقرون والفراشية المُخَطَّطَة. يلاصقه دكان محمد بن رحومة ويليه مشغل الأسطى هنكة حاكة الأردية القطنية. وفي وقت لاحق قام عبد الفتاح البدوي بتحويل المحل الأخير إلى مقهى أداره في وقت لاحق محمد شويشين ثم اتخذه عمر شلقم طاحونة،لإعداد عجين الخبز. والمذكور هو شقيق (الكمباري) صاحب الطاحونة المواجهة له”.
اتبع المؤرخ الثقافي علي حُسنين طرائقية أو أسلوبية التوقّف الإخباري في محطات سردية بذكرِ موجز لموقع أو عقار متميز أو شخص ـ وبقدر الإمكان وبحسب الأحوال – إيراد اسم مالك العقار أو ساكنه أو مزاول النشاط في رحابه. ومن باب التوثيق الأمين في سياق الحديث عن الشارع الموصوف يعرّج على ذكر بعض ما شهده من أحداث والتطرق لما لا يزال في الذاكرة من أسماء سكانه – دونما تقيد بالزمن- ومن أسماء من تميز منهم بمزاولة حرفة أو مهنة أو بممارسة هواية أو نشاط ما.
لو اكتفى بهذا لكان النص وصفاً لعالم رتيب يسير على منوال واحد مُكرّر. ولكن مقال “كوشة الصفار بين ذاكرتين “سيظل نصاً مشوّقاً ممتعاً لنا نحن الذين أدركنا بعضاً من عوالمه المسرودة، ومستثيراً لفضول قرائه ومستمعيه ولاسيما أبناء الجيل الحالي الذين تقصدّهم بخطابه محاولا جعل الكتابة لهم متعة تجوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بموقع بوابة الوسط.