1
واصلت قنينة الماء المغلقة بإحكام سيرها عبر وادي موسى، وبعد ستة أيام كانت قد وصلت إلى شواطئ سيراكوزا .. من يسلك هذا الطريق لابد أن تقذفه الأمواج في النهاية إلى هناك، ولكن البحر كان آبقاً، خلال أسبوع كامل لم يشهد عابرو المتوسط من مهربي البشر مثل هذا الأسبوع الدامي .. يعرفون أنها ظاهرة تصيبه كل خمسين عاماً، ولكنهم لا يعرفون تحديداً متى تأتي .. الخمسون قد تنقص أو تزيد.
كان ماريو الابن الأصغر للسيد “قويدو” يحاول اصطياد سمكة في مياه ضحلة، حيث العائلة تستمتع بالشمس، ففي الجزء الشمالي من القارة يعرفون أن البحر قد غيّر جلده، وأن المياه أنقى ما تكون خلال الفترة التي تعقب هذا الهيجان .. قنينةٌ تسبح في البحر، مشهد طالما رآه “ماريو” في مسلسلات الرسوم المتحركة، ولكنه كان على يقين بأن ما يحدث في مسلسلات الكرتون لا يمكن أن يكررها الواقع .. فمن الطرف الجنوبي للبحر لا يأتي أبداً ما يسر .. راقب الطفل القنينة وهي تتراقص تحت أشعة الشمس، ومباشرة ذهب نظره إلى مجموعة من الأوراق داخلها .. أعادت الدهشة تشكيل ملامح وجهه، وأطلق العنان لتخيلاته .. هل يمكن أن تكون وصية البحار “دانيلو” الذي التهمه البحر ذات عاصفة .. أو عله يكون المارد “لوتشي” الذي حولته الشياطين إلى دخان، فآثر الاختباء في قنينة عطر .. سبح ماريو في محيط من التخيلات إلى أن استيقظ على صوت والده.
“قويدو دانيلو” باحث معروف في الديموغرافية، كتب أكثر من 23 بحثاً في هذا الشأن، ولديه عضوية في 76 مؤسسة بحثية حول العالم .. فتح القنينة المغلقة بإحكام، وسط إصرار طفله الأصغر، فيما زوجته تسوق النكات البذيئة، كعادة أي إيطالية نصف ثملة تجاوزت الأربعين .. لم يكن في القنينة مارد كما كان يأمل ماريو، ولا قسيمة يانصيب أو سيارة فيراري، كما كانت تردد “نتاليا” بتهكم، ولكنه كان بحثاً باللغة الانكليزية حول الهجرة غير القانونية لباحث ليبي اسمه يونس حسن السالمي .. نتاليا التي تعمل معلمة للغة الإيطالية لغير الناطقين بها، قالت: لا بد أنه ليس ليبياً، لأنها درّست الكثير من الليبيين، وتعرف أن خمس الشعب الليبي اسمه محمد .. قالتها وهي لا تدري أن “المارتيني”[1] قد أفقدها جزءاً من التركيز.
2
في الطرف الجنوبي من البحر الأبيض، كان البروفسور الليبي يونس السالمي، يتنفس اصطناعياً في حجرة بالدور الأول بمستشفى الخضراء .. الكثير من ذباب الخريف يجول في الغرفة، فيما قطة سوداء تطل برأسها من زجاج النافذة المكسور، يبدو أن المريض السابق قد عوّدها ببعض الفتات .. القطط وفية دائماً لأذواقها.
رقم الهاتف المسجل في البحث، مغلق باستمرار، فكر قويدو في إرسال رسالة بريدية للباحث، بعد أن فتش عن اسمه في الانترنت، واكتشف أنه باحث ليبي مرموق، تخرج في جامعة بوسطن، في العام 1982 ونال الماجستير والدكتوراه من جامعة ديلاور، وله أكثر من خمسين بحثاً في التنوع الديموغرافي وحركة السكان .. البروفسور يونس، غادر ليبيا عقب ما عرف بالسابع من أبريل، واستقر في الولايات المتحدة الأمريكية .. بدأ فيها نادلاً في مقهى، حتى وصل إلى درجة الأستاذية، وقد عاد إلى ليبيا في العام 2012 أي بعد عام من اندلاع التمرد ضد نظام العقيد القذافي .. العنوان في ذيل البحث، هو مشروع الهضبة الخضراء، بالقرب من معسكر حمزة – خلف محطة البوعيشي للوقود .. لم يكن هناك وجود لأي رمز بريدي .. تساءل قويدو إذا ما كان بالإمكان أن تصل رسالة عاجلة إلى هذا العنوان، ولكنه تذكر أن لا شيء يعمل في ليبيا بعد العام 2011 .. وتساءل أيضاً كيف لبحث مثل هذا أن ينجز في الظروف التي تعيشها ليبيا الآن .. فكر أيضاً في أن يكتب له على العنوان الذي وجده في موقع لينكد إن، ولكن كلما هم بتنفيذ خطوة وقع أسيراً للسؤال: كيف وصل هذا البحث إلى إيطاليا، لابد أن أحداً قد سرقه، ثم أخذت الأسئلة تتناسخ تحت جمجمته، ولكن لا إجابات.
لم يكن للبروفسور يونس سوى مرتبه من الجامعة، وبيته الصغير المتواضع في مشروع الهضبة .. لقد عاش طفولته وجزءًا من شبابه في منطقة البطاطا [2]، ولكنه عاد ليجد أن البيت قد هدم في إطار مشروع التطوير المسمى ليبيا الغد .. تولى سفيان ابن شقيقته، أمور التعويض، بعد أن أرسل له خاله توكيلاً بالخصوص، واشترى له قطعة أرض مقام عليها نصف منزل، هي اليوم بيت البروفسور يونس ومختبره.
3
جاء عنصر من قوة الردع الخاصة، وعنصران من جهاز مكافحة الهجرة غير القانونية للتحقيق مجدداً مع البرفسور يونس، على اعتباره الناجي الوحيد من حادثة تحطم الزورق “سلامة”، الذي كان يقل مائة مهاجر غير قانوني من جزيرة فروة، أقصى غرب ليبيا، في اتجاه السواحل الإيطالية .. البرفسور كان الليبي الوحيد الذي أمكن التعرف عليه .. شخصان آخران يعتقد أنهما ليبيان أيضاً ولكن حالتهما حرجة للغاية .. كيف لأستاذ جامعي وباحث معروف أن يكون ضمن مائة مهاجر غير قانوني .. أكد محضر جمع الاستدلالات أن يونس السالمي، لم يتورط في أي عمل غير قانوني منذ وصوله لطرابلس في العام 2012 .. جاء كغيره من ليبيي المهجر عبر مطار طرابلس، عندما شهدت البلاد أجمل سنواتها في ذلك العام .. لم يتمكن من المشاركة في انتخابات المؤتمر الوطني، ولكنه شارك في انتخابات لجنة الستين[3]، دعمه في ذلك سفيان ابن شقيقته، ورغم تخليه عن جنسيته الأمريكية، وصرف جل ما وفره على تلك الحملة إلا إنه لم يجمع أكثر من خمسة أصوات، لم يكن صوت سفيان من ضمنها .. استسلم للواقع واعتبرها نزوة سياسية، وآثر منذ ذلك الحين مواصلة بحثه العلمي فقط .. محضر جمع الاستدلالات يقول أيضاً أنه أمضى جل وقته دارساً وباحثاً في شؤون الهجرة غير القانونية، وقدّم عديد البحوث، والأوراق، والمقالات في هذا الشأن .. كما قدّم عديد الأفكار للقضاء بشكل نهائي على هذه الظاهرة .. بعض الأقوال التي جمعت من زملاء له في الجامعة، وبعض المقربين، تقول أنه انتهى منذ أشهر من إنجاز بحث عن الهجرة غير القانونية، جمع فيه حقائق مهمة حول هذه القضية، وقدم حلولاً حقيقية لإنهائها بشكل قاطع، وتقدم بملخص البحث للمشاركة في المؤتمر العالمي الأول لمكافحة الهجرة والاتجار بالبشر الذي تنظمه “جامعة لندن”، ورغم أنه تقدم مراراً للحصول على التأشيرة الانكليزية، إلا أن طلبه قد رفض .. كان ذلك خيبة أمل كبيرة بالنسبة له .. أكثر من ثلاثة عقود في الولايات المتحدة، ومواطنة صالحة، لم يرتكب فيها مخالفة مرورية واحدة، لم تشفع له أمام المملكة المتحدة.
4
أخيراً وبعد ثلاثة أيام من الإغماء، عادت له الحياة من جديد، 72 ساعة من الموت السريري، ولكن عقله كان يعمل أفضل من ساعة سويسرية .. مرت حياته كاملة أمام ناظريه .. تذكر خلالها أدق التفاصيل .. تذكر كيف التحق بمعهد أحمد باشا الديني، وكيف خرج الناس في الأول من سبتمبر بعد أن سمعوا في المذياع أن ثورة أطاحت بالملك إدريس، وكيف أن والده بدأ غير سعيد بذلك الانقلاب .. هو ممرض بسيط في مستوصف الغرارات، لكنه كان ناضجاً سياسياً .. تذكر أيضاً ما حدث في جامعة بنغازي من اعتقال وشنق للطلبة، وكيف أممت الصحف، وعطلت القوانين، تذكر الزحف على المصانع، والبيت لساكنه، تذكر حياته متنقلاً من ولاية لأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية .. تذكر كيف تقدم بطلب العمل ضمن أعضاء هيئة التدريس بكلية الآداب والتربية، وكيف أمضى أكثر من عام كامل في انتظار قرار التعيين .. تذكر كيف تحولت طرابلس من عروس للبحر، إلى عجوز شمطاء شاب وليدها .. مدينة كئيبة تنتشر فيها أكياس القمامة، وينقطع عنها الكهرباء والماء بالأيام، ويزدهر فيها الموت المجاني .. تذكر كيف فكر للمرة الأولى في المساهمة بحل مشكلة الهجرة غير القانونية من جذورها، وكيف تصدى لها بالبحث، والسهر، والحمى أحياناً.
5
تواصل قويدو مع صديق له في جامعة لندن مستفسراً عن مؤتمر مرتقب حول الهجرة غير القانونية، من المفترض أن يحضره أهم بحاث العالم، وسبعة رؤساء مهتمون بجهود مكافحة الهجرة .. كان بحث البروفسور يونس، البحث الأكثر تميزاً، بدأ ذلك واضحاً من خلال الملخص الذي أرسله للجنة التحضيرية للمؤتمر، لأنه تناول الظاهرة من جوانب عدة، ووضع حلولاً لكل دولة من دول المصدر على حدة، ولأن البحث تناول جانباً استقصائياً عن منظمات، ودول تتورط في قضية الهجرة .. قالت اللجنة التحضيرية لمؤتمر لندن أنها فقدت الاتصال بالبروفسور يونس منذ أسبوعين تقريباً، بينما تضمنت آخر رسالة إلكترونية كان قد أرسلها وصفاً مؤلماً لصراعه من أجل الحصول على التأشيرة البريطانية، أمضى خلالها عدة أيام في تونس، حيث مقر الشركة التي تقدم خدمات التأشيرة لليبيين.. ووعد في ختام الرسالة بالحضور والمشاركة.
6
استيقظ أخيراً ليجد كومة من الأسئلة في انتظاره، ثلاثة رجال يبدو أنهم على دراية تامة بكل ما يتعلق بحياته، اليوم لا يريدون منه سوى تذكر آخر ساعة أمضاها قبل أن يركب البحر، غير عابئاً بالغرق .. كان سفيان ابن شقيقته قد أخبرهم بكل شيء .. منذ أن استعان به خاله في رصد زوارق الموت، ومعرفة أهم تجار الهجرة غير القانونية، وعرفه على “زكريا النيجيري” الذي كان يعمل في مقهى “أرورا” بوسط العاصمة، يقدم الجمر لزبائن الشيشة، ويصطاد الراغبين في الهجرة من دول الجوار .. كان زكريا الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين يحمل اسماً آخر وهو سفير القابون، ولا أحد يعرف مصدر الاسم، ولكن يبدو أن أحد زبائن المقهى قد أطلقه عليه، فهو في كامل أناقته، حتى وهو يتنقل بين الطاولات ليقدم الفحم للزبائن، كما إنه يجيد اللغتين الانكليزية والفرنسية بالإضافة إلى اللهجة الليبية .. روى زكريا للبروفسور يونس عديد القصص عن المهاجرين، وعن رحلاتهم من الجنوب إلى الشمال، وعن معاناتهم من المهربين، كما كان وسيطاً في شراء عدة منظومات إلكترونية من ابن عمه “أكوشا” الذي يدير محلاً لبيع المعدات الكهربائية في أبوجا .. كل منظومة تضم قاعدة بيانات ضخمة أفادت البروفسور في بحثه، إحدها لجهاز مكافحة الهجرة غير القانونية، والأخرى للبلاغات التي سجلت في مجال تهريب البشر منذ العام 2000 حتى العام 2010، أما الثالثة فكانت عبارة عن تقارير حول الهجرة منذ العهد الملكي، والأخيرة اختفت من أرشيف وكالة الأنباء الليبية في العام 2012 أو بالأحرى بيعت لدولة عربية كانت مهتمة بجمع الأرشيف الليبي، ولكن يبدو أن البائع قد احتفظ بنسخة لنفسه .. زكريا كان مهاجراً سابقاً، جرّب المخاطرة، وركوب الأمواج لعدة مرات، أرغم على العودة إلى نيجيريا عن طريق المنظمة الدولية للهجرة، ولكنه كرّر المحاولة، حتى كاد أن يفقد حياته، وأخيراً فضل العمل صائداً لراغبي الهجرة.
اطلع زكريا البروفسور يونس على أغلب مناطق اختباء المهاجرين، وعلى أهم الشواطئ التي ينطلقون منها، وأهم الأودية التي يسلكونها، وأهمها على الإطلاق وادي موسى .. لم يكن البروفسور يعلم أن للبحر أودية، ولكنه صار خبيراً بها، وصار يعرف مزايا وعيوب كلٍّ منها .. وادي موسى اسم أطلق على الخط البحري الرابط بين جزيرة فروة وأول نقطة في جزيرة سيشيليا، نسبة لموسى الغاني أول من اكتشف هذا المسار، وحمل بعد ذلك اسمه .. يقول المهربون يكفي أن تضع قدماً في فروة، لتجد الأخرى في سيشيليا، فلست بحاجة سوى للاستلقاء على سطح الزورق، وسيتكفل الوادي بكل شيء .. يعتقد البحارة أن البحر في هذا المسار يشبه شكل الوادي على اليابسة تماماً.
7
تبرع عدد من أعضاء هيئة التدريس بجامعة طرابلس بمبلغ من المال لنقل البروفسور يونس لمصحة خاصة، هنا صار لديه جهاز تلفاز، ومكيف، وأجهزة لمراقبة وتخطيط القلب .. ما كان ليحدث هذا لو بقى في الولايات المتحدة .. كان خوفه من الملاحقة القانونية أكبر بكثير من خوفه من تعطل كليتيه، لقد دلق البحر في جوفه أكثر مما يمكن أن يستوعبه جسمه النحيل من المياه المالحة .. غير أن سفيان قد طمأنه:
– لا تكترث يا خال، أنت في ليبيا .. القانون في إجازة.
كل ما تريده قوة الردع الخاصة معرفة ما إذا كان الزورق “سلامة” يحمل أيضاً صواريخاً من نوع “الكورنيت”، فهناك معلومات استخباراتية تفيد بأن مليشيا مناوئة لحكومة الوفاق الوطني، تود تهريبها لأوروبا لضرب أهداف حيوية هناك .. تعلم البروفسور يونس من خلال إقامته في الولايات المتحدة أن قول الصدق هو الخط الأقرب إلى النجاة .. على عكس ما كان سفيان يحاول إقناعه به:
– لا تركز على التفاصيل يا خال
صدع البروفسور لتعليمات المحقق التابع لقوة الردع الخاصة، وطفق يسرد القصة منذ حصوله على الماجستير من جامعة ديلاور، ولكن يبدو أن سفيان كان محقاً، ليست التفاصيل ما يريده المحقق .. ومع إصرار البروفسور، قبل المحقق بحلٍّ وسط، وهو أن يستمع للقصة منذ أن وصلته الموافقة للمشاركة في مؤتمر لندن لمكافحة الهجرة والاتجار بالبشر.
8
بعد أن تأخر البروفسور في تأكيد مشاركته بالحضور الشخصي للمؤتمر، قامت اللجنة التحضيرية بإعادة تصنيفه من مشارك بالحضور، إلى مشارك غير حاضر .. البحث الذي حمل عنوان ” Illegal immigration truth and solutions” الهجرة غير القانونية .. الحقيقة والحلول .. وقد حمل البحث عنواناً فرعياً جذاباً وهو “روح القهوة”.. في محاضراته بجامعة طرابلس، وورش العمل التي كان يقيمها، كان البروفسور يصف دائماً المهاجرين بأنهم مطحونون تحت آلة الحضارة الأوروبية، كما تطحن آلة طحن القهوة حبات البن، ليستمتع الغرب بالمذاق.
“قويدو” حاول طلب المساعدة من السفارة الإيطالية في طرابلس، لمعرفة مصير البروفسور يونس، ولكن وزارة الداخلية في طرابلس أكدت للسفير أن شخصاً بهذا الاسم لم يرد في أي من سجلاتها .. سفيان الذي تعرف على خاله في غرفة العناية بمستشفى الخضراء، بعد أن علم من زكريا بتحطم “سلامة”، أعطى للمستشفى اسماً آخر، وهو محمد علي اليونسي .. لا يدري لماذا قام بذلك ولكنها الفطرة الليبية في التعامل مع الأزمات .. لم يتبق على موعد انطلاق مؤتمر لندن سوى ثلاثة أيام، و”روح القهوة” يستأثر باهتمام لجنة التقييم، ولا شيء يفصله عن القلادة الذهبية، وربما جائزة نوبل في قادم الأيام.
10
كان الجو رائعاً خلال شهر سبتمبر عندما بدأ البروفسور يونس تدريباته على رحلة الزورق “سلامة” المبرمجة لكي تغادر جزيرة فروة خلال شهر يناير القادم، هذه الرحلة تتميز بطابع خاص، لأن عدد من ركابها من ذوي الظروف الخاصة، ليسوا مهاجرين عاديين، هم إما من رجال الأعمال الفاسدين الهاربين من مليشيات أخرى فاسدة، أو تجار أسلحة، ومن ذوي الظروف الاستثنائية مثل البروفسور يونس الذي رفضت الخارجية البريطانية منحه تأشيرة دخول للمشاركة في مؤتمر لندن .. على الزورق “سلامة” أيضاً أشخاص غير ليبيين لم يعرف أحد كنههم .. بدأ البروفسور أول تدريباته على أحد شواطئ مدينة القره بوللي في الخامس من شهر سبتمبر .. زكريا سلمه للرايس عمر، وهو عريف سابق في البحرية المصرية، أتهم بالمشاركة في مظاهرات ميدان رابعة، وهرب ليستقر به المقام في شواطئ ليبيا، من القره بوللي شرقاً حتى تليل غرباً، هذه هي حدود منطقته .. بدأ العريف عمر بتمرينات الإحماء، ثم أخذ يشرح بعض المصطلحات التي قد يسمعونها خلال الرحلة، وما هي ردود الأفعال التي يجب أن يقوموا بها عند سماع كل مصطلح .. ضمن المجموعة التي يشرف على تدريبها العريف عمر بالإضافة إلى البروفسور يونس، عدد من الأفارقة، وبنغالي، وثلاثة عرب لا أكثر.
– لما تسمع إب .. يعني اقفز .. يعني Jumb
كان العريف عمر يشرح أعلى درجات الخطر، وهي اشتعال النار في الزورق، والتي لا يجدي معها سوى القفز إلى البحر .. هذه الرحلة تصنف من الرحلات الخاصة جداً والتي لا يمكن لمنظمة الهجرة، أو منظمة أطباء بلا حدود اعتراضها، فالهدف منها ليس بيع الركاب، إنما وصولهم جميعاً لأوروبا سالمين، العريف عمر قال لهم أنهم قد تحصلوا على موافقة منظمة Sea Watch للعبور.
– لما تسمع اكتم .. يعني انزل تحت المشمع .. يعني ما فيش أي نفس يطلع.
في هذه الحالة كان العريف عمر يشرح حالة من حالات التخفي، فهناك احتمال وإن كان ضعيفاً في أن تخل زوارق منظمة الهجرة، وأطباء بلا حدود بأي اتفاق فيما كان الطلب على مهاجرين قد زاد.
اتقن البروفسور كافة الحيل، وحفظ جميع المصطلحات عن ظهر قلب، وصار لا يفصله عن حلم الوصول إلى لندن سوى يومين أو يزيد .. تمنى تلك اللحظة أن تكون لديه أغلال قادرة على كبح جماح الريح التي بدت كغير العادة آبقة أو أكثر .. أشرف إبراهيم وهو حلقة الوصل بين المسافرين والزورق “سلامة” على تفقد الجميع وتأكد من عدم وجود غريب، أو متطفل بينهم، وطمأنهم أن كل شيء يسير على ما يرام، غير أن العريف عمر لن يتمكن من قيادة الزورق، وقدّم لهم عبد الستار الجزائري وهو بحار سابق، وأعرف العارفين بمسلك وادي موسى، وقال لهم أنهم سيكونون بين أيدي أمينة .. لم يهتم أحد ما إذا كان السائق عمر المصري، أو عبد الستار الجزائري، فقد كان كل ما يهم هو الوصول بأمان إلى الجانب الآخر من شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
حيَّ عبد الستار ركاب رحلته بمزيج من اللغات، العربية والفرنسية، والانكليزية، والأمازيغية، وكل ما استطاعوا فهمه هو Hello .. ثم أدار جهاز التسجيل ليرفع الشاب خالد عقيرته بالغناء:
بكيت على ولادي
بكيت على بلادي
بكيت على ولادي
شفت دموعي فالخدود
كبرتهم ربيت
كبرت شفت وعيت
لهنى لي تمنيتلهم ما عندو حدود
قالوا نمشوا يا بابا ويما
المستقبل مسدود
ما بقى فالدوق حتى بنة
الحوت خير من الدود
11
أخذ الزورق سلامة يشق البحر عبر وادي موسى، وسط أنغام الشاب خالد، فيما أخذ كل مسافر مكانه .. أخذ عبد الستار في تقديم إرشادات الأمان بلغة لم يفهمها أحد .. كل ما فهمه الركاب أنها نفس الملاحظات التي تلقوها من العريف عمر .. البروفسور يونس أصر على الحصول على قنينة ماء فارغة ليدخل فيها نسخة من بحثه، بعد أن أخذت شمول الريح تلعب بالأمواج .. أراد أن تبقى أوراقه بعيداً عن البلل حينما يضع قدميه في أرض الميعاد .. هو لا يحب أن يقرأ أوراقه العلمية كما يفعل تلاميذ المرحلة الابتدائية، إنما يريد أن يحفظها عن ظهر قلب، كما يحفظ الفنانون أغانيهم، ويريد أن يتسلطن على الركح كما يفعلون .. سأله عبد الستار لماذا تفعل ذلك، وبالكاد استوعب تساؤلاته، والتي ألحقها ببعض النكات، أشبع من خلالها البروفسور يونس تهكماً.
على بعد كيلومتر واحد من المياه الدولية، أفقدت الأمواج العاتية الزورق سلامة توازنه .. صارع عبد الستار للسيطرة عليه، ولكن يبدو أن المشكلة أكبر من خبرة ربع قرن قضاها في مياه المتوسط .. ناشد الركاب أن يلقوا بأمتعتهم في البحر ليتمكن من العودة إلى فروة، ولكن لا أحد كان يفهم ما يقول .. ليس في الكلمات التي قالها اي كلمة مما سمعوه من العريف “عمر المصري” .. حاولوا جاهدين تخمين تعليماته، ولكن دون جدوى .. وسط فزع الجميع وصراخهم، دعا البروفسور يونس – بلغة الإشارة – وهو أقرب الركاب إليه ليمسك بعجلة القيادة، حتى يقوم بنفسه برمي الأمتعة، فذلك هو سبيله الوحيد للعودة إلى بر الأمان .. غرس البروفسور جسده النحيل في عجلة القيادة، فيما عبد الستار كالمجنون يلقي بأمتعة ركابه في البحر، ويحاول توزيعهم بشكل متوازن في خلفية الزورق .. بدت على الجميع علامات الفزع، إلا البروفسور يونس، لا يمكن لأحد ساعتها أن يخمن ما تبوح به سحنته .. من بروفسور إلى قائد لزورق يقطع البحر بطريقة غير قانونية .. هذا ما كان يجول في نفسه .. تمسّك جيداً بعجلة القيادة، فقد رأى ذلك تمسكاً بحلمه .. لكن موجة عاتية انتزعته، والعجلة، وحلمه معاً.
12
في لندن كان الموعد لتتويج البروفسور يونس أحمد حسن السالمي بجائزة أفضل بحث في مجال مكافحة الهجرة والاتجار بالبشر، وفي مقبرة سيدي منيدر كان سفيان يتلقى العزاء في وفاة خاله عن عمر يناهز الثالثة والستين .. غادر البروفسور الدنيا ولكن بعد أن حقق حلمه، وخيب آمال محققي قوة الردع الخاصة في الحصول على أي معلومة قد تقود لعصابة دولية تمتهن تهريب الكورنيت إلى أوروبا.
طرابلس ديسمبر 2017
[1] نوع من الكوحول
[2] ضاحية كم ضواحي طرابلس
[3] لجنة كتابة الدستور