لازالت أغنيات المطربة تونس مفتاح التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي بصوتها العذب الجميل، تلقى رواج ومحبة ومتابعة عند كثير من الجمهور الليبي رغم مرور الزمن، والسنوات الطويلة على اعتزالها الغناء وحين دخل الأنترنت للبلاد وانتشر في أوائل الألفية، عمد عشاق الفن الليبي إلى توفير أغلب أغانيها على اليوتيوب وأصبحت متاحة للأجيال، التي رافقت أغانيها وهى في سن الطفولة او المراهقة والصبا، وللأجيال الجديدة التي وجدت في لونها الفني الرقة والجمال واللحن الرشيق الذى جعلها مقربة منهم أيضا وهذا سر من أسرار محبة الجمهور لفنها وأغنياتها فلون المطربة تونس مفتاح الفني قام على أكتاف هرمين من أهرامات الشعر والتلحين في ليبيا، وهما الشاعر الغنائي فضل المبروك وزوجها الملحن فرحات فضل الله يرحمهما الذين قدما لتونس مفتاح أروع إبداعاتهما الفنية.
كانت انطلاقة المطربة تونس مفتاح الكبيرة، حين غنت وهى في الرابعة عشرة من عمرها تقريبا أغنية “انسيتك يالبعيد”،بصوتها المغرد الشادي فجذبت أذن المستمع قبل المتفرج ورغم صغر سنها، إلا أنها غنت الأغنية بكل جوارحها وأحاسيسها وتقمصت، حالة العاشقة التي أعلنت نسيان حبيبها الذى لم يكن يستحق حبها، فكانت فعلا الطفلة المعجزة في زمانها فكيف لطفلة في ذلك العمر أن تغنى، بكل تلك المشاعر الدافقة والعواطف الملتهبة لو لم تكن لديها موهبة عشق الغناء، ومحبته فهي لم تكن تغنى للحبيب كما في كلمات الاغنية، بل تغنى للجمهور والناس وتعلن لهم جميعا بأنها مطربة تمتلك، صوت يدخل للقلب بدون حواجز بعفويته وحرارة عواطفه وتعبيراته المتدفقة بالحب، وبمقياس ذلك الزمن “سبعينيات القرن العشرين” كان ذلك منتهى الجرأة والتمرد، من فتاة صغيرة في العمر ليس في طريقة غنائها الغامرة بالمحبة والعشق فقط، بل في كلمات الأغنية، نفسها التي تعلن التمرد ونسيان الحبيب على الملأ بطبقة صوت عالية فبكل جرأة تعلن تلك الصبية الصغيرة، ليس فقط نسيانها له بل تخبره بأن “أنظارها دارن صوب جديد” أي أنها تقول له بكل أنفة وكبرياء واعتداد بالنفس بأنها لم تعد تريده ومحته تماما، من ذاكرتها وعاقبته بالنسيان لأنه ابتعد عنها وتركها فبالتالي، هو لا يستحق حبها وفيض عواطفها الدافقة ولا تكتفى كلمات الأغنية بذلك، بل تصرح معلنه بأنها أحبت شخص أخر وهذا النوع من الشعر الغنائي، واللون الغنائي الجريء كان جديد على أذن المستمع الليبي الذى كانت مشاركة، المطربة الليبية فيه شحيحة أساسا لذلك تم الاستعانة بمطربات عربيات طيلة عقد الستينيات لغناء ما يكتبه الشعراء الغنائيين تعبيرا عن عواطف المرأة ومشاعرها، وكانت أغلب الأغاني تدور حول عشق الحبيب ومحبته أو الشكوى من هجره والتذلل والتوسل لرجوعه، وما فعله الشاعر المبدع الراحل في كلمات الأغنية أنه أزاح كل الموروث في الشعر الغنائي الليبي بأغنية تتكلم بلسان المرأة متحدية الحبيب، الهاجر بإعلان النسيان، وأبدع ابن الجبل الأشم الشاعر “فضل المبروك” في رسم، كلمات الأغنية التي بدت و كأنها كانت مكتوبة لصوت تونس مفتاح الطازج في بكارته، والذى يجلب إلى مستمعه رائحة الشمارى والبطوم وخرير النهر، واخضرار الطبيعة وجمال روابى الجبل الأخضر فمن كانت يمكن أن تغنى، تلك الكلمات التي تحمل معها أجواء المكان ولهجته، إن لم تكن تلك الموهبة الجوهرة أبنة الجبل الأخضر التي عثر عليها الشاعر فضل المبروك، والملحن فرحات فضل فتمسكا بها وعملا على صقل تجربتها، وتدريبها على الغناء وكيفية غناء مخارج الحروف حتى تمكنت وأصبحت نجمة كبيرة، لسنوات قدمت خلالها أجمل أغانيها وأضحت كل أغنية جديدة تغنيها تجد طريقها للنجاح، والرواج الكبير بين الناس عند إذاعتها لأن الجمهور، عشق صوت أبنة الجبل الأخضر بدفئه ورقته وعاطفته الجياشة وأيضا لاختلاف مضامين أغانيها التي أبدع في كتابة كلماتها الشعرية الغنائية، الشاعر فضل المبروك فمن أغنية “سريبى نا وياك سريب” إلى أغنية “مراسيلك غير امتى تجي” و”عارف ليش ما اترد السلام ” و”لاتلومنى ولاتقولى غرت بيا”، “كان المحبة عيب هذا عيبى سوا نعيش والا نموت راضي بعيبى”.
الجملة اللحنية عند فرحات فضل رشيقة، وذلك شكل نوع من أنواع تطوير الأغنية الليبية الحديثة، فلقد كانت ألحان فرحات فضل سابقة لعصرها فالألحان طربية وخفيفة ورشيقة، وليس بها مط وإعادة والحقيقة أن ملحني تلك الفترة أضافوا كثير للأغنية الليبية وعملوا على تطويرها ويرجع تطوير الجملة اللحنية الليبية إلى الملحنين المبدعين المجددين مثل أبراهيم أشرف وإبراهيم فهمي وفرحات فضل ويوسف العالم وعبد الجليل خالد وغيرهم من الملحنين الليبيين الكبار.
وكل ذلك انعكس على غناء تلك المرحلة التي شهدت تطور ملحوظ وزخم بين المطربين والمطربات مثل محمد حسن وعادل عبد المجيد، وحيد سالم، عبير مصطفى طالب، راسم فخرى، واحمد سامى، سالمين الزروق، وفاطمة احمد.
وكان لصوت تونس مفتاح مكانته، وربما كانت درة أغانيها التي عشقها الناس ونالت رواج كبير هي أغنية “لا تغيب “ التى تم تصويرها فوق جسر وادى الكوف المطل على تلال وجبال الحبل الاخضر، وصدح صوتها مغنيا يشدو كالكروان:
ما تغيب خليك قريب
متغيب يالورد العاطر
ما تغيب عنى ما تغيب
ومهما تحدثنا عن والعذوبة والجمال، في كلمات وألحان الأغنية فسيبدو ذلك ضئيلا أمام جمالها الذي اكتمل، بصوت تونس مفتاح الزاخم بالعواطف والأحاسيس وبقدرتها على ترجمة كل ذلك الدفق في كلمات الأغنية بإحساس عالي من الوجد والعذوبة التي كانت الماركة المسجلة، لصوتها العذب المعبر عن شخصيتها الرقيقة الدافئة.
الفنانة تونس مفتاح كانت أكثر مطربة ليبية،غنت مناجية الوطن فقط دون ذكر اسم رئيس البلاد وإنما كانت أغنياتها عن الوطن في حد ذاته دون تمجيد للأشخاص ومنها أغنيتها الوطنية الجميلة:
بعيونى نصونك ياوطنى تهون الروح ولا مانهونك ياوطنى”.
وأغنيتها “يا بلادنا ربوعك ديما فيها الهنا والخير والتبسيمة، وفى أغنيتها “ضنا بلادى ياحد الزين” وهنا يكمن ذكاء الشاعر فضل المبروك، وعبقريته في الغناء للوطن ووصف جمال ربوعه وأماكنه دون الانزلاق، في التمجيد لحاكم البلاد أو محاولة رسم أغنية على مقاس الحاكم، وربط الوطن بوجوده وإِحْلالُه محل الوطن وربما لهذا لم تكن، أغاني تونس مفتاح الوطنية تذاع كثيرا رغم جمالها وتعبيرها عن عشق الوطن بصحاريه وجباله وناسه البسطاء الطيبين.
صوت تونس مفتاح قادم من مغارة الجمال، واحتوى كنوز كثيرة نثرتها المطربة طيلة مسيرتها الفنية التي انتهت، مبكرا نتيجة ظروف كثيرة ولو لم تنقطع مسيرة تحديث الأغنية الليبية، عبر ملحنيها الكبار ولم تنحصر في اللون البدوي فقط الذى تم التركيز عليه، من جانب على الكيلاني وعبد الله منصور الذين قاما بتهميش كل الألوان الأخرى وحصرا كل الضخ الإعلامي في لونهما، وجلبا المطربين والمطربات العربيات اللواتي لا يجدن غناء اللهجة الليبية بإتقان مثل المطربات الليبيات لغناء لونهما، و تم تهميش الأصوات الليبية الجميلة، والشعراء والملحنين المجددين والمطورين في الأغنية الليبية، لو لم يحدث كل ذلك ماكنا فقدنا كثير من الأصوات الليبية الجميلة والملحنين والشعراء الكبار الذين اختاروا العزلة والابتعاد عن المجال وهم في عنفوان عطائهم الفني الإبداعي الكبير، ومنهم بالتأكيد مطربتنا الرائعة الجميلة تونس مفتاح التي تركت بصمة في تاريخ الأغنية الليبية بصوتها العذب وأسلوبها المميز في غناء الأغنية الليبية.
تعليق واحد
المطربة الشرقاوية تونس مفتاح اعشقها منذ ان كان عمري خمسة عشر سنة ما اروعكي ايتها النشمية البرقاوية فكم تشبهين حبيبة رحيل الجندي في مسلسل المشراف حينما كان جريحا وينظر الى صورة ابنة عمه الجميلة