من أعمال التشكيلي محمد بن لامين
قصة

قصة حب

من أعمال التشكيلي محمد بن لامين

يمثل عمي خليفة شعاعا خافتا وسط عتمة المشاعر في المدينة.

طرابلس …تضج بقصص الحب وتهيم بالغرام لكنها لا تبوح به.. إن بانت من شق الأبواب أو دفع بها الريح من وراء ستائر النوافذ أو تسللت من ثقوب ” عين الزرزور”، اهتزت جدران بيوتها، وتلصصت عيون سكانها، وجمح بها الخيال فحملها كأسراب العصافير فوق الشوارع والأزقة لتتلقفها الآذان وتتسلى بها الأفواه البعيدة…

إلا قصة حب عمي خليفة.. لم تكن سرا..ولا بحاجة لأن تخفى.. تنطق بها تقاطيع وجهه الطيب، وتفوح بها كلماته.. يلهج اسمها بسهولة، ويتحدث عنها وكأنه يتحدث إليها… يعود إليها حانقا من يوم طويل يقضيه في دكانه بزاوية الدهماني ويغادرها مبتسما كل صباح..
كانت “زهرة”.. فواحة.. تتجلى نظافتها في قدمين بيضاوين ناعمتين مشوبتين بحمرة.. وكفين لامعين، في نظافة ملبسها وتغيير “فستانها” بعد الطبخ.. في خفها القطيفة الملون.. في زجاج نظارتها الطبية اللامع.. في أساورها الذهبية المشعة.. وفِي أسنانها الناصعة المصفوفة..وفِي جلستها وهي ترشف “الشاهي” مع عمي خليفة، في اتكاءتها وهي تضحك وتنصت بانتباه إليه، بينما تستقبل حجرة جلوسهما نسائم البحر المغنجة التي تعلو نحو شقتها و تداعب ستائرها البيضاء الشفافة ..

امعن النظر في بلاط بيتها.. مربعات من اللونين “العنابي” و ” الباطاطي”.. مصقولة ولامعة.. واشتم رائحة طبيخها الفائح يعبر ممر شقتها نحو حجرة الجلوس بثقة.

ورثت شقتها عن ابيها في محلة الظهرة، بها شرفة تطل على منعطف زقاق يسمح برؤية الشارع الرئيس المسرع نحو البحر..
تطل بين الحين والآخر من الشرفة المقابلة لغرفة مكتبي المنخفضة، أرى منتصف جذعها بفستانها ذي الألوان الزاهية و “التستمال” على شعرها، ونظارتها الطبية التي تحرص على تثبيتها من حين لآخر وكأنها مكبر لاستيضاح الرؤية.. تعاود الطلّة اكثر من مرة.. وفِي احداها تنتبه لي، فتحييني بيدها حتى أكاد أسمع رنين اساورها بإبتسامة عريضة وهي تهز لي برأسها..

لا تتوقف عن التردد على الشرفة إلا حين ترى عمي خليفة يجر دراجته ويتجه نحو باب العمارة.. يخيل لي أنها تتنهد بإطمئنان وتردد في نفسها ” على سلامته”.

بعدها يشرع باب الشرفة، تنفخ نسمات البحر في ستائرها حتى تهذي و تطير فرحا .

عاش عمي خليفة في شقتها.. وأحب كل تفاصيلها بداية بإسمها الذي يردده بيسر وطلتها وانشغالها وطبيخها وحتى غضبها.. أحبها كما هي.. كما كانت.. وهام بها وبحكاياتها.. يجد عندها زاده ويستقي منها خياله ويفكر ويتدبر فيما تقول ويتدفأ بجوارها ويسعد بضحكها ولا يغضب من زعلها…
دخلت شقة عمتي زهرة و أنا صغيرة.. ثم يافعة.. ثم امرأة.. لم يتغير فيها شيء.. حتى الحب والهيام بقيا على حرارتهما في أرجائها….اما ملامحها التي شهدت على تغيرها احتفظت بمسحة جمال ظلت تعلوها.. ولمعان على حاله.. وبقي طبيخها بذات الرائحة.. وضحكتها بعذوبتها، وفكاهتها حاضرة، وكلمتها جاهزة ورأيها واضح… وعمي خليفة يحبها كما أحبها دوما..غادر ابناؤها شقتها فلم يتغير شيء إذ ظل عمي خليفة مؤنسها وعمتي زهرة تستقبله بجلبته وانفعاله وهي تبتسم .

أتبادل الحديث معها.. وفِيه لابد و أن تذكر اسمه وتردد..
“ما هو سلامته عمك خليفة قال…”
“ماهو سلامته عمك خليفة هكي يبي الحاجة..”
حين يدخل عمي خليفة بعد أن يسند دراجته في مدخل العمارة.. تنهض عمتي زهرة وتستقبله بابتسامة عذبة… يبدأ عمي خليفة فورا في سرد يومه ويبدو لي وكأنه غاضب من شيء ما.. لكنه في الحقيقة كان طفلا يعبر عن يومه.. تضحك عمتي زهرة وتتفاعل معه بحذر.. فيسترخي ويستريح وتهدأ نفسه…
“بنت كامل عندنا…”!
انسحب بسرعة، ولا تتركني أرحل حتى أذوق طبيخها على عجل.
لم يكن لأحد ان يكون ثالثهما.
كانت تلك الشقة في إحدى منعطفات أزقة الظهرة تعلن ستائرها الحب المتجدد بنسيم عليل قاصد شرفتها ليداعبها دون تردد، وكأنه على موعد مع “طاسة” شاهي مرغاة بالكاكاوية المحمصة كل عشية.

مرضت عمتي زهرة وفقدت قدرتها على النطق والابتسام والحركة…لم تعد قادرة على مناداته، ولا تفقده من البلكونة في موعد عودته على دراجته، ولا منحه دفقة ابتسامة عريضة عند ملاقاته عند عتبة الباب وامتصاص أحداث يومه…
لم تعد قادرة على نشر “صابونها” في المنور الداخلي، ولا تحريك ملعقتها الخشبية في طبيخها، ولا حتى هز أساور يديها… وحين اضطرت لفراق شقتها فارق عمي خليفة الشقة كذلك. انتقلت عند ابنتها.. وانتقل هو الى بيت ابنه… فأفترقا….غادرت.. فغادر!

شاهدت عمي خليفة يزور يوميا شقة زهرة في ذات موعده.. يأتِ متكئا على دراجته التي ما عاد قادرًا على ركوبها.. اسمعه يتحدث عنها إلى نفسه احيانا، يصعد الدرجات بصعوبة يدخل بيتها، يتفقد أثرها حيث خفها وأشياءها ورحيقها ورائحتها ونباتاتها وفساتينها الملونة وأساورها ومشطها وجراب نظارتها وفرشاة أسنانها.. ثم يرحل.

أغلقت الشرفة منذ رحيلها وتهدلت ستائرها حزنا، ضَل نسيم البحر طريقه وتبعثر وتاه.
شهدت من غرفة مكتبي فصول قصة الحب تلك.. وكيف لفظت شقة حية أنفاسها حين غادرتها صاحبتها..
رحم الله عمي خليفة و عمتي زهرة….

مقالات ذات علاقة

وجع الرحيل

صفاء يونس

وُجُوْه…

أحمد يوسف عقيلة

معجنة اللوح*

عزة المقهور

اترك تعليق