هناك شد فريد للتربة الطبيعية التي لم تخالطها الأسمدة قط. وأي إمرئ قُدِّرَ له أن يمرّ بتلك الخبرة الحسية يعرف – في الوقت ذاته – ما هو أكثر إثارة من ذلك، فنباتات الأقاليم الحوشية، تلك البراري والسهوب الخضراء التي لم يزرعها إنس ولا جان، تكتظ من تلقاء نفسها بالجذوع الثقيلة، والغصون المتشابكة، والثمار، والعشب الناضر، والنوار بشتى ألوانه، دون أن يشق أديمها محراث، أو يدسّ أحدهم في طياتها ببذور المواسم.
سيجد المرء أن رائحة النبات ومذاق الثمار وأجواء القطاف الشخصي شديدة الاختلاف عما تدخره الخبرة الانطباعية في أي مزرعة مرتبة ومنسقة وبالغة التنظيم، مهما فاض بذخ تجهيزاتها ورخاء حالها، لأن أريج الفطرة قد هرب بعيداً عن الأنف والقلب.
وأعرف أناساً – هم على شاكلتي – في محبة الطبيعة البكْر – تلك الأم الرؤوم الخالصة – لا يطيق الفرد منهم المكوث لدقيقة واحدة وسط مزارع ذات تنسيق هندسي فائق ونظام صارم للري والحراثة والتشذيب والحصاد، فسرعان ما يقذف المرء منهم بطرف عباءته صوب كتفه ثم يولي الأدبار، هارباً من المكان الذي تُزاحم نباتاته آلاتٌ ميكانيكية، ويفوح بروائح زيوت المحركات الفولاذية، وتتهدل في أرجائه أسلاك الكهرباء الرفيعة كفروع يابسة، جرداء.. وميَّتة.
قال لي أحدهم وهو يمصمص شفتيه تعجباً وامتعاضاً:
– أي مزارع هذه !؟ أعوذ بالله منها ومن ثمارها!
ثم حملق في وجهي وحدقتاه تتسعان أكثر فأكثر وصاح:
– إنها “زرَّيعة” إبليس!
فقلت له متودداً وأنا أدرك خبايا شعوره النقي:
– ما بك يا أخي؟! هل أساء إليك صاحب مزرعة من المزارع؟!
فأجاب مغتماً:
– .. بل كنت محل ترحيب أحاطني به أصحابها! وهم أصحاب أصحابي أيضاً.. وأنا لا أعنيهم بأي سوء أو نقيصة! لكن تلك المزارع لا تعجبني.. ولا أحب أبداً أن أراها أو أجلس تحت أشجارها أو أقتطف منها شيئاً!!
وتربع سارداً حكاية كراهيته وتبرمه التي هي – على مستوى آخر من الإدراك – نفس حكايتي، فقد بسط بطريقته الساذجة البريئة ذات ما ينتابني كلما شاءت الأقدار أن أبقي نفسي في مدى رؤية محصور، وراء الأسوار العالية للمزارع الحديثة الشبيهة بأسوار المستشفيات والسجون!
فما أبهى “السواني” القديمة بسياجاتها القصيرة التي كوَّنها مزيج من عجين التراب وهياكل التين الشوكي “الهندي” بزغبه غير الضار، حيث لا تصطف عشرات الأشجار طابوراً يلاصق آخر بمسافات متساوية بين شجرة وشجرة، فأي بلاء ذاك الذي يقمع الرؤية والإحساس ويحيل الطبيعة إلى مسخ تمزقه ممرات الأسمنت، ولا ينقصه سوى القطران لكي تكتمل الطامة!؟ حين يوجد محراث بسيط، وبقرة، واجترار مُطمئِن وحين تدور السواقي هنا وهناك على مهل فيروي البئر أرضه، وحين تتعرَّج طريق الريف بتراب خالص تطأه مطايا حوافرها بطيئة أو مسرعة أحياناً دون مصادمات أو مخالفات أو مصائب! وقتئذ كان ثمة فائض قبل قرن، وقبل قرنين، وقبل عشرين قرناً من الزمان.
وفي مثل تلك الأجواء الأصيلة تنمو الثمار الحلوة، وتولد فنون الناس، تترنم الحناجر بأغاني العمل والعاطفة، وينبثق السَّمر، وتحل البركة.
دعوات للعودة إلى المنابع الفطرية
فهل تلك هي ضريبة التقدم.. أن ننفصم عن الطبيعة وننساها؟! لقد ولول الكاتب والمفكر الأمريكي المعروف “هنري ثورو” بقناعة تامة، داعياً إلى العودة للمنابع الفطرية حيث تترامى حولنا الطبيعة في الأرياف والغابات، وقد بنى لنفسه كوخاً صغيراً وسط الخضرة والهواء الطلق. وتحت وطأة العصر الصناعي وصخب آلاته الجبارة ومفاهيمه العلمية الجديدة عن الكون والمجتمع والمخلوقات بدا “ثورو” لنفسه كجرذ رومانطيقي حائر ترعبه ناطحات السحاب، والشاحانات التي لا تكف عن الجري، والقطارات، والأوقات المنظمة في أعمال لا تعرف الكللّ أو المللّ. ولاح للبعض كأنه اشتط في تأطير انطباعاته عن عصر عظيم، فالناس في “الويك إند”.. هناك في وطنه، وأوطان أخرى كثيرة متمدينة ينفقون الوقت حول سفوح الجبال، وفي السهول الخضراء، يقيمون المآدب، ويرقصون، وينتشون بالنسيم العليل كما رغب وتمنى!
وحيال أفكار “ثورو” الطريفة التي تدعو الآخرين للهرب من المدن ومن الآلة وانضباط الوقت ومشاغل العيش العصري، يكتب مفكر وكاتب شرقي معروف هو الأستاذ سلامة موسى في كتابه الشهير “هؤلاء علموني” هذه الفقرة: “إنه لمن الحسن أن ينبهنا كاتب بإسرافه في الحب للطبيعة إلى أنه بجانب الشارع والنادي وسهرات الكحول وعدّ النقود وشراء الأرض واقتناء الضياع والأسهم في الشركات، بجانب كل هذا توجد أرض وسماء وأشجار وزهور وأنهار وجبال، وأن القمر يضئ في الليل، فيكسو الحقول بأشعته، وأن النجوم تنادينا في الظلام كي نتأملها ونتحدث إليها، وأننا من وقت لآخر يجب أن نختلي ونستوحد كي نعيد النظر في حياتنا ونسأل: هل نحن نعيش مساقين بضغط العادات الاجتماعية أم أننا ننقحها بإلهام الطبيعة التي تردنا إلى الأصول والجذور؟!”.
إن المحاجة هنا غير مجدية، لأنني أقرّ – بالرغم من شعوري الخاص – باستحالة الارتداد والتقهقر، وخواء مناجاة الأيام الخوالي السالفات، فالتقدم يفرض حقائقه ومفاهيمه وجمالياته في نهاية المطاف. لكن: متى يرسى ذلك التقدم المزعوم حقائقه فنشاهده ملء العيون!؟.
_________________