المقالة

من داخل قاعة المحاضرات ـ درس في إشكالية الاتصال اللغوي

د/ عادل بشير الصاري

يميل كثير من اللغويين المعاصرين إلى الاعتقاد بأن قدرة اللغة على التعبير وتوضيح الأفكار والخواطر والمشاعر هي قدرة نسبية ، إذ لا تستطيع أية لغة تبيان ما في العقل والوجدان بدقة متناهية لا لبس فيها ، وأعتقد أن هذا الرأي لا يجانبه الصواب ، إذ لو كانت اللغة قادرة حقا على تبيان الأفكار والمشاعر تبيانا حقيقيا دقيقا لاختفت من الوجود المشاحنات والمهاترات والحروب الكلامية التي تنشأ عادة بين الأفراد والشعوب بسبب سوء فهم دلالة المفردات ، ولما احتاج الناس في تعاملهم اليومي إلى الاعتذار وطلب الصفح من بعضهم حين يتلقى أحدهم كلام غيره بدلالة غير التي عناها المتكلم أو الكاتب ، ولما اضطروا إلى شروح وتفاسير النصوص المنطوقة والمكتوبة .

إن إشكالية وصول المراد من الكلام والخطاب المباشر وغير المباشر إلى متلقيه واقعة لا مجال لنكرانها أو التهوين من شأنها ، وهذا أمر نلمسه ونحس به حين يكلّم بعضنا بعضا في أمر من الأمور ، ويزداد الإحساس بالإشكالية حين يكون الكلام أو الخطاب غير مباشر، كأن يكون قصة أو خاطرة أو شعرا ، وفي الحالتين لابد من توفر خطوط اتصال مشتركة تعين على نقل المراد من الكلام والخطاب إلى المتلقي .

إن أي قول شفويا كان أم مكتوبا لن يصل جيدا إذا لم يكن هناك جهاز استقبال جيد يملكه متلقي ذلك القول ، فبغياب هذا الجهاز يحدث سوء الفهم ، وأحيانا سوء الظن بالمتكلم .

ويبين علماء اللغة المعاصرون طريقة تزيد من إمكانية وصول مراد الكلام والخطاب البشري إلى متلقيه ، فهم يقولون : إن القول يخرج من مرسل أي متكلم أو كاتب ،هذا المرسل يرسل برسالة، وهي الكلام إلى طرف ثان ، هو مستقبل الرسالة ، ولكي تصل الرسالة بأمانة لا بد من توفر مجموعة من العناصر أهمها عنصران هامان :

1 ـ السياق : وهو المصدر العام الذي صدر عنه أو في زمنه القول .

2 ـ الشيفرة : وهي الخصوصية اللغوية التي تميز بين متكلم وآخر، فكل متكلم أو كاتب له طريقة خاصة به في اختيار مفرداته وطريقة صياغة جمله التي يعبر بها ، ومن المحال أن تتطابق تماما طريقة التعبير بين شخصين يشتركان في اللغة ، إذ لا يمكن الزعم مثلا بأن المغربي المقيم في مدينة مطلة على البحر الأبيض يمكنه التفاهم معه في قضية ما بيسر مع المغربي المقيم في الصحراء ، ليس بسبب اختلاف اللغة ، بل بسبب عدم امتلاك كل منهما للسياق الثقافي والبيئي والاجتماعي للآخر .

إذن يمكن القول هنا إنه لن يتسنى لك فهم مراد كلام غيرك إذا لم تدرك طبيعة السياق العام لكلامه وشيفرته اللغوية ، وهو ما نراه جليا عندما يتكلم معنا من لم تسبق لنا معرفته من قبل ، أو عندما نسمع على سبيل المثال نشرة اقتصادية ، فكل من يستمع إلى هذه النشرة وليست لديه معرفة بسياقها وشيفرة لغتها فإنه لن يفهمها ، لذا فإن معرفة المرجعية التي صدر عنها القول ، ومعرفة خصوصيته ضرورية جدا لمعرفة مضمونه .

هذا فيما يخص الكلام المباشر العادي ، أما إذا كان الكلام غير مباشر ذا طبيعة فنية تأثيرية فإن على المتلقي أن يرتفع إلى مستوى هذا الصنف من الكلام ، ولا يأخذه كما يأخذ الكلام المباشر .

خذ على سبيل المثال هذا الحديث الموجود في صحيح البخاري : ( النيل والفرات وسيحون وجيحون من أنهار الجنة ) .

كيف لك أن تفهم مثل هذا الحديث ؟ هل تأخذه بظاهر ألفاظه ؟ .

هل تفترض أن الحديث موضوعٌ على النبي ، بحجة أن واقع الحال يقول : إن مصبات تلك الأنهار معروفة للجميع ؟ .

إذن لو أخذتَ الحديث بظاهر ألفاظه ستكذِّب منطوق الحديث أو تكذِّب واقع الحال ، وهنا عليك أن تبحث عن مخرج لك من هذا المأزق .

هنا يأتي دور علم اللغة الحديث ليقول لك : لا تٌكذَّبْ الحديث وافترض صحة سنده ، لأنك لو كذَّبته لن يقتنع بتكذيبك أنصار السنة والحديث ، ولا تتشككْ في معلوماتك عن تلك الأنهار، بل عليك أن تبحث عن السياق الذي ورد فيه الحديث ، وهناك شيفرة تقودك إليها ، هذه الشيفرة موجودة في نص الحديث ، وهي نفسها التي سببت سوء الفهم ، والشيفرة هي كلمة ( الجنة ) , وهنا عليك أن تدرك دلالة هذه اللفظة في سياقها الأدبي والديني والاجتماعي زمن النبي حتى تصل إلى أن من معاني هذه اللفظة هو الخير والبركة ، وبذلك تقبل مطمئنا إلى أن النبي قصد أن تلك الأنهار هي أنهار خير وبركة .

لنأخذ نصا ثانيا من الشعر ، وهو لابن هاني الأندلسي يمدح فيه الحاكم بأمر الله الفاطمي :

ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ …. فاحكم فأنت الواحد القهارُ

فكأنما أنت النـبيُ محمـدٌ …. وكأنما أنصارُك الأنصارُ

إذا أخذتَ النص بظاهر لفظه ستكفِّر الشاعر، لكن مشكلتك ليست مع الشاعر، بل مع المعنى الخفيَّ الذي يتوارى وراء كلمات مثل : الواحد ـ القهارـ النبي ـ الأنصار ، وهنا عليك أن تكتشف سياقها التاريخي الذي وردت فيه ، وتكتشف أيضا الشيفرة التي تفك لغز النص .

لا بد لك أن ترجع إلى تاريخ حكم الدولة الفاطمية لتعرف من هو هذا الحاكم ؟ وما علاقته بالموحدين الدروز ؟ وما مكانته بينهم ؟ ، ليتبين لك بعدئذ أنهم يؤمنون بـ ( التجلي ) الذي يُعَد وفق الرؤية الفلسفية القديمة درجة من درجات الحلول ، أي حلول الذات الإلهية في الصورة البشرية ، وعلى هذا فإن الحاكم في نظر القائلين بالتجلي كان يمثِّل الصورة الناسوتية للإلوهية ، وبمعنى آخر هو يمثِّل الإله متجلياً في صورة إنسان ، لذلك خلع عليه الشاعر صفات المشيئة والوحدانية والقدرة .

ولا شك أن محبي نزار قباني يذكرون قوله :

من أين يأتي الشعرُ يا قرطاجةُ …. والله مات وعادت الأنصابُ

أنا يا صديقةُ متعبٌ بعروبتـي …. فهل العروبةُ لعـنةٌ وعقابُ

إذا كنت أنت ممن يقرأ الشعر كمن يقرأ خبرا أو إعلانا في جريدة ، فإنك لن تستسيغ البيت الأول وستعمد إلى الحوقلة واستغفار الله من هذا البيت الشيطاني وستلعن صاحبه الذي تجرأ على قول ( الله مات وعادت الأنصاب ) ، ولكن لو تعاملت مع البيت بذائقة فنية لاكتشفت أن الشاعر لم يقصد من لفظتيْ ( الله ـ الأنصاب ) معناهما الظاهري ، بل قصد بهما الإشارة إلى ما يحسه من انكسار وذلة وألم نفسي بسبب ضعف الأمة وهوانها وهزيمتها أمام أعدائها ، لذلك تساءل بحيرة : كيف لي ومن أين يأتيني الشعر ، وأنا أرى قيم الحق والفضيلة والخير قد ماتت وحلت محلها قيم الباطل والشر والفساد .

فانظر إليه كيف صور لك أحاسيسه تجاه أمته في صورة مجازية غير متوقعة قد تؤذي العاطفة الدينية عند البسطاء ، لكنها تمتع الحس الشعوري لمتذوقي الشعر .

لذا فإن فهم أي نص ذي طبيعة مجازية يجب أن يتوجه إلى البحث عن دلالات ألفاظه لا عن صاحبه ، وعدم فهم السياق الذي ورد فيه النص وشيفرته هو الذي غالبا ما يؤدي إلى عدم فهم المراد منه ، وبالتالي إلى مقاطعته وإلقاء شتى التهم على صاحبه .

عندما ظهر شعر التفعيلة منذ أكثر من خمسين سنة شن أنصار الشعر العمودي هجوما عنيفا على رواد ذلك الشعر واتهموهم بالتنكر للموروث الشعري القديم ، وبالعبث بموسيقاه ، على أن أكثر التهم التي وُجهتْ إليهم هي تهمة الغموض ، ومن ألقى هذه التهمة كان معذورا بسبب عدم فهمه للسياق التاريخي الذي أنتج ذلك الشعر، وبسبب عناده وإصراره على أن يفهم ما تغير بعقلية لم تتغير .

ومن هنا أكرر القول إن الكلام العادي أو الفني لا يخرج من العدم بل يخرج من واقع نفسي أو تاريخي أو سياسي أو اجتماعي ، ولكل واقع لغته الخاصة به ، وعدم فهم هذا الواقع أو السياق ، وعدم فهم لغة ذلك السياق هو الذي يؤدي إلى المشاحنات والخصومات والقطيعة بين صاحب القول ومتلقيه .

ولعل هذا ما عناه الشاعر المهجري إيليا أبي ماضي في بيته :

إن بعضَ القـولِ فـنٌ فاجعـلِ الإصغاءَ فـنـا

هذا الكلام الذي أكتبه الآن إذا أمعنت النظر أنت على مضمونه العام ، فلربما تكتسب معرفة من نوع ما ، أما إذا ركزت على صاحبه ، وأمسكت بخناقه ، وقلت : له هذه سفسطة قديمة ، وفلسفة لا طائل من ورائها ، أو قلت : إنك قصدت من ورائه استعراضا لثقافتك فإنك في الواقع شغلت نفسك عن النص ، وألهيتها بأمور خارجية شكلية .

إن ما دفعني إلى هذا الموضوع هو ما أراه من خصومات تنشب عادة حين يكتب كاتب موضوعا ما يتم استبعاد النص ، ويمسك بتلابيب صاحبه ، وهنا تشتعل الحروب الكلامية ، وتأخذ القذائف تتساقط بين كاتب الموضوع والمتلقي ، ولو أن هذا المتلقي كان يمتلك أدوات تحليل النص لما انشغل بصاحب النص ، ولعل أكثر المعارك الثقافية ولأدبية التي أثيرت قديما وحديثا كمعارك المتنبي مع خصومه ، ومعارك طه حسين مع الرافعي أبرز دليل على ذلك ، ففيها تم استبعاد النص وحرمان القراء من تذوقه ، والانشغال بالمهاترات وسقَط الكلام .

مقالات ذات علاقة

فنـانـونـا الأعــزاء عــودوا إلـى مسـارحكــم

حمد المسماري

الشعر الليبي الحديث في حاجة إلى نقد حقيقي

نبيلة سالم الطاهر

إرهاب الفقر

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق