من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
قصة

تحت السقف

من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي

حاولت قدر جهدها أن تهدئ من روعه، لكن محاولاتها تبددت في الهواء وكأنما هي تخاطب شخصاً آخر غير موجود في المكان.

حزَّ ذلك في نفسها بشدة فارتسمت أمارات الهمّ والإعياء على وجهها الطافح بالصحة والوداعة والهدوء فكدر صفحة الوجه الفاتن.

لِـمَ لَمْ يصغِ إلى توسلاتها الرقيقة ومنطقها الحنون ويستجبْ إلى عواطفها الصادقة تجاهه ويتفق معها – كما قالت له – على الكف عن تحويل الحبَّة إلى قبة وتهويل ما لا سبيل إلى تهويله من صغائر الأمور؟!

كم كانت تتمنى أن يعيرها أذنه وقلبه وأن لا يوصد في وجهها كل شيء: الأبواب والنوافذ والممرات، وحتى طلعته التي اعتادتها لم تعد تراها أمامها فقد عصف القلق والاضطراب والهياج بكل قسماته فاختفت الأسارير التي ألفتها منذ عشر سنوات. وظلت تتحدث إليه بجماع نفسها حديثاً لينا كي تزيل وطأة هواجسه العجيبة.

كان جالساً على المقعد الوثير بجوار ستارة النافذة التي لا تشف عن أي مشهد لفرط سمكها ودكنتها.. زرقاء، نيلية، وافرة تصل أطرافها إلى بساط الصالون، وفي جنبات الغرفة الواسعة تنتشر الأزهار الفواحة بألوانها المشرقة الباهرة.

انحنى في جلسته المهمومة نحو المنضدة البراقة وقد عبَّأ مطفأة الدخان ببقايا سجائره الفاخرة وجوارها ثلاثة أقداح فارغة من القهوة، في حين بقي كأس عصير الفاكهة كما جاء لم يرشف منه رشفة واحدة.

قالت بيأس خافت وصوتها يسري فيه التهدج:
– إذن لا تريد أن تتكلم!
ثم مطت شفتيها وأضافت:
– وأنا أتحدث إليك طول الوقت!!
فقال بهدوء وهو يحدق ساهماً في محياها الجميل:
– قلت لكِ.. قلت لكِ!!
فعاجلته:
– ماذا قلت لي! – لا شيء! أنتَ لم تقل شيئاً!! فقط تكورت كالقنفد وانغلقت على نفسك!

فأجاب متريثاً كمن يخطو في مكان لا يعرفه جيداً:
– لا! أنتِ تعرفين، وقد كاشفتكِ بما يساورني!.. من البداية، ونحن في طريق عودتنا إلى المنزل، كنت صريحاً معكِ، ولم أخف شروطي وأفعل ما يغضبك كي أمليها بطرقة خبيثة.

فاندفعت معلقة:
– لكنك لم تأبه بتوضيحاتي، وبدوت لي منصرفاً بكاملك عن الاهتمام بما أراه أنا مناسباً أكثر لي ولك، أم أنك تنوي حقاً القطيعة؟!
فغمغم قصيراً ثم قال بحزم:
– ذلك مرهون باستجابتك لشروطي!.. إن وافقتِ فلا قطيعة!

عندئذ خيَّم السكون والصمت عليهما، وظلت هي لفترة وجيزة من الوقت تداعب ببطء خصلات شعرها المنسدل، وكان هو وقتئذ يهيم بعينيه الضيقتين في جنبات الحجرة كالفأر الذي لا يجد منفذاً يفر منه، وأخيراً أزاحت خصلة من خصلات شعرها إلى الوراء بسرعة ثم نطقت بصبر نافد:

– هل من اللائق بعد كل تلك السنين أن تتحدث حديث الغرباء!؟ إنني لا أكاد أصدق أذني.. شروط!؟ يا للعجب! الزوج لا يخاطب زوجته وأم صغاره على هذا النحو! يمكنك استعمال هذه الكلمة في أي موضع أو مقام آخر حيث العقود التجارية، مراسلات الشركات. عندئذ لا يكون لها أي وقع سيء. عادية، متداولة، رسمية، لكن هنا تحت سقف البيت. أرجوك! افهمني، ولتقل لي ما شئت من العتاب والظنون الفارغة، لكن فلتسمعني ذلك برنَّة خاصة لأنني زوجتك!

فقال بقلة اكتراث:
– هـه ! قلت إنني صريح معكِ، فهل من المعقول أن أتكلف وأجامل شخصاً أعرفه حق المعرفة، إن الأسلوب يا عزيزتي لا معنى له هنا تحت سقف البيت الذي تشيرين إليه بسبب أنني أطرح في حقيقة الأمر شروطاً!.. ماذا تريدين أن أسميها.. توابل مثلاً أو بيانات؟!
فتضاعف وجومها وبان القلق في حدقتها ولم تجبه على الفور. فقال ممازحاً بنبرات كالتسرية:
-لا.. لن تغضبي مني! افهميني ولا تجفلي مني كغزال البراري!

فلفتت وجهها نحوه بحدة قائلة:
– إذاً تريدني وستسحب شروطك! أرجوك لا تلقِ على سمعي هذه الكلمة مرة أخرى. ثم إن القطيعة ليست أمراً ماثلاً في كل الأحيان مثل سلة المهملات نرمي نحوها قصاصات الورق، وعلب التبغ الفارغة، والزوجات، والأطفال…
فعقب متودداً:
– لا.. لا.. لن أفعل ذلك.
ثم ما لبث أن غادر مقعده الوثير وجاورها متلطفاً وهو يقول:
– على أي حال ليست هناك شروط بالمعنى الذي يثيرك، فأنا أرغب التفاهم معكِ حول أمورنا المشتركة.

فقاطعته قائلة:
– لكنك لا تقيم وزناً للأسلوب والألفاظ والمعاني ذات الخصوصية الفائقة. هذا ما يميز البيت وأفراد الأسرة، أي أسرة حقيقية في العالم، أقصد في أي مكان من الدنيا. لأنه من المفجع أن يكون تفكيرنا حول ذلك مختلفاً. فهل طول المعاشرة يملي على الزوج أو الزوجة أن يتحدثا بجلافة وعدم اعتياد. أي رعب وفقدان حينما يأتي حديث العائلة مفتقراً إلى الألفة؟!
أطرق برأسه قائلاً بصوت خفيض:
– نعم.. نعم !.. هذا صحيح مئة بالمئة. الآن أريد أن أعرف رأيك في ملاحظاتي التي ترين معي أنها ضرورية لاستقرارنا.
فعاجلته مرة أخرى:
– بل ضرورية لأوهامك ومعاييرك غير المعقولة.
قال بهمس مهموم:
– كيف؟!

فقالت وهي تمدّ ساقيها إلى الأمام غائصة في الكرسي الوثير:
– تعرف أن المسألة عادية وبسيطة إن لم تنظر إليها بمقياس رجل يخالط الوسواس إحساسه الآخر بالسيادة.
فابتسم هازاً رأسه بالنفي!
وواصلت هي حديثها قائلة بنبرات شارحة:
– الثقة تتولد عن المعاشرة..
فقاطعها محتجاً:
– لا.. لا ترمِ سهامكِ إلى صدري!!

واستمرت في الحديث الشارح:
– إنني معظم الوقت في البيت. وأحياناً أذهب للزيارة أو للسوق، ومرات للعيادة أو الصيدلية.. وفي العادة أترك ورقة لك بالمكان الذي أقصده. وغالباً ما نتصل هاتفياً فأخبرك أنني ذاهبة ولن أتأخر. حاول أن تفهم أن تصريح الخروج على هذا النحو يحول الزوجة إلى موظفة بيت!! ثم إن الزواج في النهاية عش مغاير للمصلحة الحكومية التي تفرض عقوبات على الغياب بدون إذن أو مبرر. وبالطبع أنا فاهمة. قد تعود أثناء غيابي ولا تجدني أو تعرف أين أنا. وهذا من البديهي أنه محير ورديء. لابد أن تعرف أين ذهبت زوجتك. لهذا أترك ورائي مراراً ورقاً أخبرك فيه بمكاني. لكن ماذاً حين أسهو لدواعي الضرورة والعجلة فلا أترك أي ورقة؟! وهذا الأمر لم يحدث إلا مرة أو ثلاث مرات فقط طوال السنين الماضية. وفي أحيان أخرى أهاتفك فلا أجدك.

فازداد اقتراباً منها ثم أمسك بيدها ولثمها معتذراً.

قالت على الفور وشفتاه تبارح يدها:
– مازال عصير الفاكهة على المنضدة.. اشرب!
فضحك ثم قال:
– سنتقاسمه..
وقدم إليها الكأس بمحبة.
وبعد قليل أعادت إليه نصف الكأس وابتسامتها تسطع وراء الزجاج الصقيل.

مقالات ذات علاقة

الفستان الأحمر

أحمد يوسف عقيلة

ثلاث مقالات قصيرات

محمد دربي

الشيء الذي حدث

عائشة إبراهيم

اترك تعليق