المقالة

عن محمّد حسن …ذِكَرتك وجنبي شمعة !

محمد بالطيب

الفنان الراحل محمد حسن.
الصورة: عن الشبكة.

ليست أكثر من غصّةٍ عالقة، تلك التي ورّمت حنجرة الفنّان محمّد حسن في مرضه القاتل ،ليرحل بها في سفره الأخير  الى الخلود في ذاكرة شعبٍ أنهكته الحروب وأدمته المعارك وذاكرة أمّةٍ مزّقتها الانقسامات ،غصّةُ الوجع من مآلات وطنٍ دمّرته طائرات الناتو وهي تقصف مدنه وتقتّل أطفاله وتهدم مستقبله بسنوات طويلةٍ من الضياع .

محمّد حسن فنّان ليبيا الأوّل وإسمها الموسيقيُّ الأكثر شهرةً وتأثيرًا ،لم يتردّد لحظة واحدة في إعلان موقفه من “17 فبراير” وخيّر الإنحياز بشكلٍ صريح إلى صف العقيد معمّر القذّافي وإلى “ثورة الفاتح من سبتمبر” التي طالما تغنّى بها حتّى سُميّ في أدبياتها بـ”فنّان الثّورة” ،وهو الخيارُ الذي كلّفه انهاء مسيرته الفنيّة عند سقوط النّظام نهاية العام 2011 والانزواء في بيته بمدينة الخمس غرب ليبيا ..كانت النهايةً باردةً وموجعة وحزينة .

من الخمس سنة 1946 وإليها في العام 2017 كانت ،دورة الحياة الطويلة عبر سبعة عقود قضّى جلّها سائرًا على دربٍ موسيقيٍّ طويل في مسيرةً إستثنائيّة ومتفرّدة ،عاش محمّد حسن خلالها متربعًا على عرشٍ من المجد الفنّي ملتحفًا بزيّ ليبي عتيق ،مشعًا بحجم مدرسة خرّجت أجيالا من الفنانين الليبيين والعرب .

مثقّف نموذجي بكل  أوجه الالتزام السياسي والفكري ،عاش حياته منتميًا لفكرة “الثّورة” بالمفهوم الذي نظّر له العقيد معمّر القذّافي ،وعاش مؤمنا بفكرة الأمّة العربيّة حاملاً لهمومها من فلسطين الى كل قضاياها الموجعة ،غنّى لأطفال الحجارة وغنّى للحب والعواطف وللمشاعر الإنسانيّة النبيلة ،غنّى للوجع والفراق وأحيا خلالها تراث ليبيا الغنيَّ بعشرات الألوان الموسيقيّة.

كان محمّد حسن فنّان الملاحم الكبيرة مسكونًا بالتراث والتاريخ والثقافة الشّعبيّة ،فطيلة ستّ سنوات كاملة ظلّ (مثلا) يشتغل صحبة الشاعر عبد الّله منصور على السيرة الهلاليّة وهو العمل الذي قدّمه في نسخة أولى لمدّة أربع ساعات متواصلة بالاشتراك مع الفنانة الرّاحلة ذكرى محمد.

علاقات محمّد حسن الفنيّة محليا وعربيًا كبيرة وواسعة ،وهو صانع النّجوم ومكتشف المواهب ،فقد لحّن لكبار الفنانين والفنانات في العالم العربي مثل ذكرى محمّد وغادة رجب ولطيفة  العرفاوي وسميرة سعيد وأصالة نصري ونوال غشام وأيضًا وخاصة الفنانة الكبيرة وردة .

في معظم أعماله الغنائيّة تعامل محمّد حسن مع كبار الشعراء الليبيين على رأسهم علي الكيلاني وعبد الله منصور والشاعر المرحوم “سليمان الترهوني” ،حيث يعتبر هذا الثلاثي من أهم الشعراء الذين ساهموا في مسيرة الرّاحل محمّد حسن .

فعن سليمان الترهوني تُروى في السّاحة الثقافية الليبية قصّة مفادها أنّ أغنية “وينك وينك” التي غنتها الفنانة أميرة وعدد من الفنانين الليبيين من بينهم الفنان الشعبي عصام العبيردي ،والتي لحّنها محمّد حسن ولم يغنّيها ،كتبها الترهوني في المستشفى كعتاب لصديقه محمّد حسن الذي لم يزره في مرضه ،وحين وصلته الكلمات ،تأثّر حدّ البكاء ولحّن الأغنية ولم يستطع أداءها .

في المقابل ،ينظر الكثير من النقّاد الى ثنائية محمّد حسن وعلي الكيلاني ،كصورة مشابهة لثنائيّة أحمد فؤاد نجم والشّيخ امام ،فمع اختلاف السياقات ونوعية الفن ،يجتمع الأربعة في نضاليتهم السياسية وايمانهم بالقضايا القوميّة الكبرى ،كما يشتركون أيضًا في نقطة أخرى وهي قربهم من العقيد الرّاحل معمّر القذّافي وتبجيله لهم جميعًا ،ثمّ وفي الثنائيّتين كان رحيل الفنّان دومًا قبل الشّاعر !

أغاني محمّد حسن الكثيرة والمتنوّعة أخرجت الثقافة الليبيّة الى الساحة العربيّة وكانت سفيرة لليبيا في أزمنة الحصار والمواجهة ،محمّد حسن الذي تربّى في الاذاعة وكبر على فنّ الموشّحات وكان منذ بداياته مهتما بالتراث الليبي الغني جدًّا في تنوّعه ،كان هو نفسه صورة جميلة وكبيرة لليبيا لعقود طويلة .

ربّما يبقى السؤال قائمًا برحيل الفنّان محمّد حسن عن مستقبل الفن الليبي والثقافة الليبية بشكل عام ،فرغم ثراء وغزارة الانتاج وتنوّعه مازالت الساحة الفنيّة والثقافيّة الليبية تفتقد الى “نجومٍ” كبار ،حيث لايكاد يعرف العرب عن الثقافة في ليبيا غير اسماء معدودة ،ابراهيم الكوني في الرواية والصادق النيهوم في الفكر ومحمّد حسن في الغناء والموسيقى ،ولا تبدو مشكلة ليبيا الثقافية مشكلة ابداع ولا انتاج ،هي ربّما مشكلة اشعاع ،وهو الشيء الذي نجح محمّد حسن في تجاوزه حتّى صار إسما من كبار الفنانين العرب عبر التاريخ .

ليس من السّهل وربّما ليس من المفيد كثيرًا الحديث عن محمّد حسن في حياته الشّخصيّة ،فالرّجل عاش مترفعا عن الظهور والتصريحات واللقاءات منكبا على مشروع فنّي كبير وثقيل وطويل وكان يخيّر دومًا الفنّ عن الكلام ،والمواقف المصاغة في رسالة فنيّة عن التصريحات والاعلام ،وليس من السّهل أيضًا التأريخ للشخصيات التي تترك بصمتها العميقة في حياة الشّعوب ،لكن رحل محمّد حسن في النهاية بعد صراع مع ورم في الحنجرة ،تلك اللتي أطربت الملايين من المحيط الى الخليج قبل أن تغصّ في الصّمت الأخير بوجع مآلات وطنه الحزينة ،رحل محمّد حسن لكنه ترك لهذا الوطن ولهذه الأمّة الشيء الكثير من الفن والأعمال الكبيرة ،وهكذا الكبار دوما عبر التاريخ يرحلون جسدًا ولكن يخلّدهم الابداع .

ولو تكلّمت الأغنية العربيّة اليوم لمحمّد حسن لردّدت خلفه بحزنِ الفقدِ الكبيرْ …ذكرتك وجنبي شمعة !

____________________

نشر بموقع بوابة أفريقيا الإخبارية.

مقالات ذات علاقة

سرقات الزغيبي – الجزء الثاني

محمد قصيبات

تحول الهويات واللغات في عصر الذكاء الاصطناعي

أبوالقاسم المشاي

المثقف المليشياوي

المشرف العام

اترك تعليق