من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
قصة

الشُّـهــودُ…

إلى الأديبِ الرِّوَائيِّ إبراهيم النَّجمي.

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

 

– لحظةَ خروجِهِ لِلشُّرَفَةِ كَانَتْ عَجَلاتُ السَّيَّارَةِ تُطْلِقُ صَرْخَةَ تَوَقُّفٍ مُزْعِجَةً قَبْلَ أَنْ تَصْطَدِمَ بِالْجِدَارِ المُقَابِلِ لِبَيْتِهِ .. تَهَشَّمَ زُجَاجُهَا الأَمَامِيُّ عَلَى وَجْهِ سَائِقِهَا القَصِيرِ.. قَفَزَ منْهَا فَزِعًا وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى جَبِينِهِ، مُتَوَارِيًا فِي الزُّقَاقِ الضَّيْقِ قَبْلَ أَنْ يَكْتَظَّ الْمَكَانُ بِالفُضُولِيِّينَ مِنَ المَارَّةِ ..

*****
“… عَلَيَّ الطَّلاقُ رَأَيْتُهُ .. شَابًّا سمينًا مخمورًا يقودُ سَيَّارَتَهُ بسرعةٍ جنونيَّةٍ .. لولا أنهُ دَاسَ على الكوابحِ في اللَّحْظَةِ المناسبةِ لاصطدمَ بالمنازلِ وأحدثَ كارثةً مُرَوِّعَةً..” قَالَهَا جَارُهُم الجزَّارُ الذي كَانَ أَوَّلَ الوَاصِلِينَ لِمَكَانِ الحَادِثِ .. حَكَّ رَأْسَهُ .. بَصَقَ عَلَى الأَرْضِ .. تَفَرَّسَ في الوُجُوهِ الفُضُولِيَّةِ الْمَمْدُودَةِ بِبَلَاهَةٍ، ثُمَّ اخْتَفَى عَنِ العُيُونِ..!

*****

ـ قَالَ آخَرُ للقَادِمِينَ الجُدُدِ الَّذِينَ فَاضَ بهمُ المكَانُ: ” إِنَّهُ شَابٌّ ثَمِلٌ بِصُحْبَتِهِ فَتَاةٌ مَا، يبدو أَنَّهُ اخْتَطَفَهَا، أو ربما كانَ على علاقةٍ آثمةٍ بها، شَكْلُهَا وَمَلَابِسُهَا الخَلِيعَةُ يُوحِيَانِ بِالرِّيبَةِ .. كَانَ يَقُودُ سَيَّارَتَهُ بِسُرْعَةٍ جُنُونِيَّةٍ .. لقد نَقَلُوهُمَا لِلْمُسْتَشْفَى .. علينا أنْ نُبْلِغَ الشُّرْطَةَ حَالًا..
– ما اسمُهَا ؟
– لا أدري .. لكنَّ الفَتَى كَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، أَمَّا الفَتَاةُ فَهْيَ شَقْرَاءُ طَوِيلَةٌ .. عَلَيَّ الطَّلاقُ هذا ما سَمِعْتُهُ مِمَّنْ شَهِدُوا الحَادِثَ .. أَبْنَاءُ الكَلْبِ …؟ ”
قَالَهَا وَمَضَى …

*****

ـ ” إِنَّهُ أَحِدُ المْجِرمِينَ الخَطِرِينَ وَبِصُحْبَتِهِ فَتَاةٌ خَلِيعَةٌ كَبَطَلاتِ السِّينما، كَانَتْ تُطَارِدُهُمَا الشُّرْطَةُ .. اِسْتَطَاعَ العَاهِرَانِ الهَرَبَ .. لقد عَثَرُوا عَلَى زُجَاجَةِ خَمْرٍ وَكَمِّيَّةٍ مِنَ المُخَدِّرَاتِ فِي سَيَّارَتِهمَا ..
– أينَ هيَ ..؟ قَالَ الشِّرْطِيُّ السَّمِينُ الَّذِي حَضَرَ مُتَأَبِّطًا أَوْرَاقًا..
تَلَعْثَمَ الرَّجُلُ فِي الإِجَابَةِ .. شَعَرُ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِإِخْفَاءِ الْمُبْرِزَاتِ .. اِبْتَلَعَ رِيقَهُ بِصُعُوبَةٍ .. اِبْتَسَمَ للشُّرْطِيِّ ابْتِسَامَةً مُنَافِقَةً .. رَبَّتَ على كَتِفِهِ قَائِلًا :” هذا ما يقولُهُ النَّاسُ .. أنا لم أَكُنْ مُوجُودًا لحظةَ الحَادِثِ .. ليتهُمَا قُتِلَا .. اتفوووه .. أَوْلَادُ الحَرَامِ ..”
لم يَلْمَحْ صَدًى لِشَهَادَتِهِ عَلَى وُجُوهِ مُسْتَمِعيهِ الَّذِينَ تَعَلَّقَتْ عُيُونُهُم بِامْرَأَةٍ اِقْتَحَمَتِ الزُّقَاقَ عَائِدَةً إلى بيتِهَا ..
” أَلَيْسَتْ هَذِهِ ؟ ” تَسَاءَلَ أَحَدُهُم مُشِيرًا إِلَى الْمَرْأَةِ وَهْيَ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فيما نَهَرَهُ صَدِيقُهُ بِلَكْزَةٍ مِنْ مِرْفَقِهِ مُنَبِّهًا إِلَى أَنَّ زَوْجَهَا أَحَدُ الوَاقِفِينَ .. اِسْتَدَارَ مُغَادِرًا المَكَانَ الْمُخْتَنِقَ .. حَيَّا الرَّجُلَ الوَاقِفَ بِالشُّرْفَةِ لإِيهَامِهِ بِأَنَّهُ لم يَكُنْ مُصَوِّبًا بَصَرَهُ إلى عَيْنَيْنِ نَزِقَتَيْنِ تَشِي بِهِمَا السَّتَائِرُ المضْطَرِبَةُ بِمُرَاوَدَةِ رِيحٍ خَفِيفَةٍ .. مَضَى مُتَلَفِّتًا إلى الشُّهُودِ الَّذِين ظَلَّتْ أَصْوَاتُهُمُ المُخْتَلِطَةُ تَقْتَحِمُ أُذُنَيْهِ حَتَّى وَارَتْهُ البُيُوتُ الْهَرِمَةُ الْمُشَادَةُ بِعَشْوَائِيَّةٍ مُزْرِيَةٍ ..

*****
بِرَأسٍ أَشْيَبَ أَطَلَّتْ عَجُوزٌ تَقْطُنُ مَنْزِلًا قديمًا بمدخلِ الزُّقَاقِ الضَّيِّقِ، مُسْتَطْلِعَةً مَا يَجْرِي .. رَكَّزَتْ أَصَابِعَهَا عَلَى جَبْهَتِهَا الْمُتَغَضِّنَةِ، نِاشِرَةً ثَلَاثًا مِنْ أَصَابِعِهَا في الهَوَاءِ اتِّقَاءً لأَشِعَّةِ الشَّمْسِ .. ضَيَّقَتْ عَيْنَيْهَا مُحَاوِلَةً رُؤيَةَ الوُجُوهِ الْمُتَأَمِّلَةِ .. أَصَاخَتِ السَّمْعَ لأَصْوَاتِ النَّاسِ المتكدِّسينَ حَيْثُ تَرْبُضُ السَّيَّارَةُ الْمَعْطُوبَةُ .. وَحِينَ لم تَتَمَكَّنْ مِنِ الْتِقَاطِ أَيِّ طَرْفٍ منَ الأَحَادِيثِ الَّتِي تُحِيكُهَا الكُتْلَةُ البَشَرِيَّةُ الْمُتَحَلْزِنَةُ حَوْلَ السَّيَّارَةِ، شَرَعَتْ تُدْلِي بِشَهَادَتِهَا لابْنَةِ جَارَتِهَا الَّتِي سَأَلَتْهَا إِنْ كَانَ الفَتَى طَوِيلًا وَذَا شَعْرٍ أَشْقَرَ.. !؟
– لو كانَ كذلِكَ لكنْتِ أنتِ معَهُ..!؟
– قالَتْ ذَلكَ قبلَ أنْ تدخُلَ معَ والدةِ الفتاةِ في مُشَادَّةٍ كَلَامِيَّةٍ غَيْرِ مُهَذَّبَةٍ، حَوَّلتْ لوقتٍ قصيرٍ أَنْظاَرَ النَّاسِ إليهما حتى غَابَتَا خَلْفَ أَبْوَابِ بَيْتَيْهِمَا مُخَلِّفَتَيْنِ آثَارَ مَوْقِعَةٍ بَذِيئَةٍ خَدَشَتْ أَسْلِحَتُهَا اللَّفْظِيَّةُ الْحَادَّةُ بَعْضَ الآذانِ الِّتِي ظَلَّتْ تُرْهِفُ الإِصْغَاءَ لِعِرَاكِهِمَا التَّافِهِ ..

*****

– أخذَ يتنقَّلُ بينَ السَّيَّارَةِ الْمُعَطَّلَةِ وَالْجِدَارِ، مُحْصِيًا بِخُطُواتٍ عَرْجَاءَ مُتَمَايلَةٍ المسَافَةَ بَيْنَهُمَا، مُرْشِدًا رَجُلَ المرورِ الِّذِي ظَلَّ يَتْبَعُهُ صَامِتًا مُدَوِّنًا مُلَاحَظَاتِهِ .. ” الله ..الله …الله ..!! إنها سرعةٌ فظيعةٌ .. عَشْرُ خُطُوَاتٍ كَامِلَةٍ .. أَيْ عشرةُ أمتارٍ.. هذا جنون ..!! سمعتُ أنَّ السَّائِقَ قد مَاتَ .. لا أرجعَهُ اللهُ … أنا شاهدتُهُ في مراتٍ عديدةٍ يكادُ يطيرُ بقطعةِ الصَّفِيحِ هذهِ .. أولادُ حرامٍ ..” انزوَى بعيدًا عنِ الجمعِ المندهشِ حينَ أحسَّ أنَّ أحدًا لا يُصَدِّقُ شَهَادَتَهُ .. تَنَحْنَحَ ثم بَصَقَ ثمَّ وَقَفَ يُفْرِغُ أنفَهُ بإصبعِهِ، مستندًا على الجدارِ، مستمعًا لشهاداتٍ أخرى غريبةٍ مدعَّمَةٍ بأدلَّةٍ وأيمانٍ غليظةٍ تختلفُ كثيرًا عن شهادتِهِ ..!!

*****

– تَوَالَتِ الشَّهَادَاتُ .. تَبَايَنَتْ .. تَنَاقَضَتْ .. اِخْتَلَطَتْ .. تَدَاخَلَتْ .. شَقَّ فَجْوَةً بَيْنَ الأَجْسَادِ المكتظَّةِ .. شَتَمَ أحدَهُم .. دَفَعَ آخَرَ .. اِقْتَحَمَ الزِّحَامَ .. عَلَا صُوتُهُ .. صَارَ صُرَاخًا عَصِبيًا ..تَرَاجَعِتِ الأَجْسَادُ مفسحةً لَهُ المكانَ .. سَحَبَ خَلْفَهُ طِفْلًا معصُوْبَ الرَّأْسِ .. أُخْرِسَتِ الألسنةُ .. اِحْمَرَّتْ الوُجُوهُ .. اِسْوَدَّتْ .. اِخْتَفَتْ خَجَلًا .. دَفَعَ ابْنَهُ دَاخِلَ السَّيَّارَةِ .. أَدَارَ مُحَرِّكَهَا .. تَفَرَّقَ النَّاسُ .. أَغْلَقَ رَجُلُ الْمُرُورِ مَحْضَرَهُ .. !!

القاهرة/ 24/ 1 / 2003م

مقالات ذات علاقة

حكايات البحر

محمد الأصفر

القِدْر…

أحمد يوسف عقيلة

جـنـدي

المشرف العام

اترك تعليق