رباح الزبير
هل المثقف بريء من هذا المصاب الفادح بالوطن والساسة وحدهم هم من يتحمل الوزر؟ أم أن المثقف كان ومازال يرسم الأحلام بفرشاة الوهم ويعتقد ببراءته من كل دمار لحق ويلحق بالواقع؟ أسئلة تفرض نفسها وتحتاج إلى إجابة… كلنا يعلم أن الدكتاتورية ليست قدرًا إلهيا قالت به الأديان أو نادت به الأعراف، وإنما هي خيار تمليه شهوة التسلط بناءً على قبول المحكوم الذي ورث ثقافة الاستكانة والخضوع، في غياب الإشعاع الثقافي، الذي للمثقف الدور الأول في مسك مشعله.
لا أعتقد أننا في حاجة إلى أن نقلب جوف الأيام لندرك أن الثقافة هي حجر الزاوية لكل بنيان، وأن الديمقراطية ليست نظام حكم فقط، ولكنها مسار للحياة، وسلوك يومي لما يصارحنا به مثقفونا بلغة صريحة تغادر الصالونات الأدبية، وتستوطن الشارع، وترسم في الذاكرة الجماعية ما يستنطق الواقع بكل ملاباسته، وينبئ بالمستقبل في صورته البعيدة عن الوهم.
لقد أسهم غياب المثقف ذي الحس الوطني في تسرب خطاب مسيّس استغل المفاهيم والألفاظ، القادرة على غزو العقول المتصحرة، التي احتبس نشاطها على العلاقة بين المفهوم وماصدق في زمن غلب فيه المفهوم على ما صدق، وتاهت العلاقات التطابقية والعلاقات الإختلافية في علاقة الاشتمال… كل ما تراه الجموع الآن مجرد رماد من غير نار، وخيال متعطش للقمة العيش، وغيمة اتهامات قاتمة تلون وجه الحياة، وتدق نواقيس اليأس، التي لم يسلم من صداها حتى سكان القبور.
جاءت ثورة فبراير، وما أدراك ما ثورة فبراير, فجرفت الماضي بكل مافيه، وخرج المتعطشون للسلطة من منصات الصمت، ليتصدروا المشهد بجملة من المزايدات والسيوف والشعارات والتشوهات الفكرية، والمكابرة والسقوط السياسي المريع بعناوينه المختلفة، وخيباته المتتالية، فانفرط عقد الوطن، وذهبت كل الأحلام أدراج الرياح… وفي فترة وجيزة أصبح الوطن يدعو للشفقة، ويعج بالساسة والنسناسة، وانزوى المثقف بعيدًا في المقاهي الجانبية يرتشف قهوة المساء، ويعلك ماتبقى من وجع، وهو يشاهد بأم عينه ماحل بالمناهج التعليمية، والمرافق والخدمات الصحية، وشكل الخطاب الإعلامي، الذي أصبح عبارة عن قرص مدمج لتسجيلات وهابية، فرضت نفسها في ظل الفراغ الثقافي، فأصبح الإعلام إما مرجلًا يفور لتغذية نار الفتنة، أو بوقًا يردد كيف يكون الجماع الشرعي، وطريقة شرب الماء، واستنشاق الهواء، ودخول الخلاء، لدرجة تغيرت معها السحنات والأزياء، وتحولت معها المعالم الأثريه والجمالية والتاريخية الى أهداف مباشرة تم نسفها واقتلاعها… تغيرت ملامح الأفراد وجغرافية البلاد وانهمرت مصائب الدنيا دفعة واحدة، وتحول الوطن إلى مأذبة اجتمع عليها الكلاب والذئاب، وعجّت الشوارع بالمتسولين وباعة المناديل الورقية… هنا لابد من القول لماذا لايعترف المثقف بتقصيره في أداء رسالته، حتى لايستمر هذا التردي الملازم لصيرورة الحياة في وطننا؟ فهل تحول المثقف إلى مومياء الحاضر، أم أن الكلمات هي الأخرى بضاعة قابلة للبيع؟.
___________
نشر بموقع ليبيا المستقبل