سرد

ارزوقـة


نص سردي، مُهدى إلى (كتكوتي) وكل كتاكيت وعتاتيق واشويشوات وديكة الحظيرة:

 

بشعره المُجعَّد المائل إلى الاصفرار، لكأنّ الشمس، أذابت وأذبلت شموع ملح الفرح عليه، بعد أكثر من غطسة برأسه، في شاطئ (أشبيليا) غير الملوّث صيوفئذٍ- في الثمانينيات- وببنطاله الـ (بلوتي) ذي الخطوط العريضة، الذي لا ينتعل له سوى (صندل = اقبال) حاكته أيدي الجلّادين- الصائغين والصانعين، لا الجلّادين المُعذبين، بصياط الجلود- الإسبان، غارساً في خزينته الورائية، مشطاً معدنياً، يحاكي في رسمه، شوكة الطعام، ليتخلل شعره، الذي أحرقته وأيبست أغصانه، شموس القيلولات، كان يحلو لـ (ارزوقة) التـَّسمُر أمام مدخل عيادة (الكيش) طوال يومه، برجله العرجاء، التي خسر مشيته الأنيقة بها، إثر سقوطه الحر- ليكون حراً- على ركبته، من مدرجات المدينة الرياضية، بـ (براشوت) حب الحياة والإقبال عليها، هروباً من حافلات الشرطة العسكرية، في يوم مشهود، ما تزال أحداثه تدور، وتعصف بدائرة الذكريات لدى جيله، ما دارت دواليب الأيام والسنين، حيث إنه، كان أول قافز في ذلك اليوم، بعد تردُّد الكثيرين، وتسليم أكثرهم، لنفسه بنفسه، وصعوده طواعية، في حافِلتي الدورة- وجليانة- العسكريتين، من دون دفع أجرة الركوبة، بل حياته إلى مصير معلوم، في مكان مجهول.

‘ارزوقة’ كان يحبُّ الحياة، ويغني لها في حالاته جميعها، يغني الفرح، وهوّ جذلان، يغني البكاء وهوّ حزين، يحلق بالآذان ويسكنها هناك، خارج جاذبية القلق، يبهج الناس، ويصبّر العجائز على طول انتظارهنَّ للأطباء، الذين غالباً لا يأتون، بانتظار واصطبار، يشبهان مثيليهما لدى العوانس، للعرسان، بصوته وأغانيه غير المألوفة ولا المعروفة، بالنسبة للشعب الليبي، إذا أنه،  كسر طوق الحصار، الذي كانت تفرضه الإذاعة الليبية، مستعينة بالقطع الحربية الصدِئة في الكابترانية، على صنوف الغناء العربي المُتقــَن والحديث، لعمالقة الغناء، الذين لا يسمع الليبيون أعمالهم، سوى في ذكرى وصول ‘عبد الناصر’ إلى سُدة السلطة، وذكرى تأميم قناة السويس، وذكرى عيد ميلاده ووفاته وزواجه، وزوال دولته، المُنقطِعة الأوصال والأرجاء، التي استمرت زُهاء الثلاث سنوات، والتي حقـّقها بالوحدة مع القطر السوري البعيد، وتخليه عن السودان الملاصق لبلاده، في صفقة الحكم، التي أقصى بموجبها ‘محمد نجيب’ المُجمَع عليه من قِبل الشعبين العربيين (المصري والسوداني).

السودان، الذي كان أقرب لمصر من أيِّ بلد آخر، ويشكـّل معها، وحدة وجود ودم وأصل ونهر وتاريخ مشترك واحد، السودان، الذي سينفصل عراه، بكل جزم، في يوم 9 يناير المُقبل، بعد تخلي (23 يوليو) عنه، فيعطون للعرب ومسلميه منه، صحراءه الشمالية، وللزنوج ولمسيحيه، خصب أرضه ونفطه في الجنوب.

‘ارزوقة’ كانت حياته غناءً وألحاناً، حتى كلامه غناء، وأنت تتحدث معه، أخر كلمة في جملتك،  يستحضر بها عنواناً لنغم ما يحفظه، فينشده بصوت جميل وإحساس عالٍ، حاول أنْ يتعلم العزف على آلة موسيقية ما، لكنه لم يجد ثمنها، وحتى إنْ وجد، فالآلات صارت وقتذاك، عملة نادرة- تـُباع بسعر الدولار (3.5) ديناراً في سوق الذهب- بعد حرقها، في يوم مشهود، ما تزال أحداثه تدور، وتعصف بدائرة الذكريات لدى جيله، ما دارت دواليب الأيام والسنين.. كلما سافر صديق له إلى الخارج، أوصاه بأنْ يحضر له معه، سروال بلوتي، وشريطاً لفنان يحبُّه، أراد أنْ يهبَّ صوته للجميع، فلم يجد سوى الفـُسح الفسيحات بالعيادات بمدينة بنغازي (الكيش- الماجوري- الصابري- التأمين) .. في عيادة (الكيش) كان موعدي مع شدوه، الذي لا تتوقف عقيرته، إلا عندما يرتفع صوت الحق، مُنادياً لصلاة الظهر- من خلال مُكبِّرات جامع (السبالة) الصدّاحة، التي تسمع بواسطتها، آذان الأوقات الخمسة، حتى من ميدان الشجرة، أحبُّ هذا المسجد كثيراً، لأنه يُعلي صوت الحقِّ، بأكبر قدر ممكن، وخاصة في صلاة الفجر- ووراءه يؤذن ‘ارزوقة’.

هناك تعرفت من خلاله، إلى أجمل الأغنيات، التي لم تتناهَ إلى مسامعي، مثل أغنية (يا بنت بلدي/فريد الأطرش) التي لطالما تغنى بها، لبنات بنغازي، هو لم يكن يتحرش بهنَّ، لكنه بحسب ما وصل إليّ من إحساسه، يبكيهنّ ويعزيهنّ في ضحايا الحافلات، الذين بفقدانهنَّ لهم، فقدنّ أزواج المستقبل، غير أنّ إحداهنّ، قد التبس عليها الأمر، وعنّفته بهذا التوبيخ الحاد والقائم والمنفرج: ‘يا صايع يا فاشل.. يللي ما عندك ما اتدير.. ترضاها في خواتك؟’ لم يهتم لما قذعته به، من سُباب قاسٍ، أدّمع عينيه، واستمر في غنائه، وإطرابه لها وللموجودين، وحضرت على حنجرته أغنية، حاول أنْ يسترضيها بها (ايش اللي يرضيك احكيلي؟/سيف النصر) فقد كان هذا الفنان حينئذٍ، في أوجه، أيام رواج أشرطته المُرقـَمة (1-2-3-4-5) عند ‘رجب فيديو’ .. فردّت عليه: ‘واللهي انحرش فيك خويا.. راهو ضابط في القوات المُسلــــــ(خ*)ـــــــــة.. بيش ايربوك.. هذي اللي ترضيني ابصحيح’.. وبعد ربع ساعة بالتمام، صفـّت سيارة (مازدا سنفورة) فيها السنفورة، ومعها (بابا سنّفور)- أبوها- و(خاخا خنّفور)- أخوها- وجنديان، فأشارت بيدها إلى من معها، نحو ‘ارزوقة’ الذي كان يستند إلى الحائط- بقامته الطويلة وصدره العريض،  كمصارع شرس- ويهيم غناءً.. فقدم ناحيته أبوها، وواجهه ووجّه من فوره إليه، هذا النقد الاجتماعي التقليدي: مش عيب عليك اتعاكس في بنات الناس؟.. فردّت عليه ‘الأبلة ازنوبة’ وهي مُدرِسة من جيل الرعيل الأول، وتعاني من ارتفاع في ضغط وحجم وحرارة الدم، بقانون ‘بويل’ للغازات والعازات، بعد أنْ ابتلعت قرصي (أدالات) وأشاحت عن نصف وجهها (البيشة) وأرجعتها كفارس ملثم، في زمن قلّ فيه الفرسان: ‘ العيل راهو مفجوع ع الغناء بس.. مرة بوه لقاه يغني في داره عطاه طريحة.. ومن يومها.. صاده اللي ما هو زين.. ليش الظلم يا احويج؟.. بنتك هي وجه واللا  قلابة؟.. لين ايعاكسها ارزوقة العزيز الغالي.. ايخصها تلقى جدع  زيه.. ارزوقة راهو امسقم ويجعر.. وما ايدير العيبة’.. فأخذ ‘ارزوقة’ يردّد أخر كلمة في جملة ‘الأبلة ازنوبة’ وهي (عيبة) غير مرة، محاولاً أنْ يستحضر بها أغنية ما، يتطلبها هذا الموقف العسير، فغنى:

موش عيب لو حبيت ضاوي خدّه .. العيب ياخذوا أرضي .. انجي نجّده

وموش عيب من سلّك الدين ابيده .. إلخ

وقبل أنْ يدخل إلى (الكوبليه) الثاني من هذه الأغنية، باغته أحد الجنديين، بضربة قاسية من أخمص بندقيته، على بطنه الجائعة، وكانت ردّة فعل ‘ارزوقة’ قاسية جدا وخاطفة، إذ اشتبك معه في معركة، في حلبة لا تتجاوز مساحتها، المتر المربع الواحد، وكان كإعصار صحراوي، وهو يدور في ذلك المضمار، إذ عالجه وعجّله بضربتين، روسية وأمريكية- ادماغ على اخشيمة، وبوني على فمه- وبثالثة من ركبته السليمة في فم كبده، انتقاماً لركبته المهشمة من جراء ذلك السقوط الحُرِّ القديم، وكنا نحن المتفرجين الصغار، نطلق لكماتنا في الهواء، تضامناً وحماساً وفتحاً مع ‘ارزوقة’ فيما نستمع من وراء غبار العاصفة إلى صوته، وهو يغني (نحنا المراجل من طبعنا/سميرة توفيق) فأسقط سوسته، وجعل الدم ينزل من فمه وأنفه (شرتلا).. غير أنّ الكثرة تغلب الشجاعة، فوضعوه في ذيل سيارتهم، بعد أن انهالوا عليه بأخامص بنادقهم، وطاروا به إلى مصير معلوم، في مكان مجهول، و’ارزوقة’ يغني بصوت مجروح ومبحوح أغنية: (montparnasse/عبد الوهاب الدّوكالي).

وفي يوم سقوطه الحرِّ، من مدرجات المدينة الرياضية، حينما كنت في الخامسة من عمري، مرافقاً لأخي، الذي اخترق الستار الحديدي المتشابك لأحد الأبواب، كفأرٍ فارٍ بحياته، من وجه عدالة الطبيعة، ومن مخالب قطٍ بريٍّ، ولم يتنفس الصعداء، إلا تحت أشجار منطقة (القوارشة) تاركاً أيايّ وحيداً، في حالة ذعر وفزع، كلما تذكرتهما، كرهت الكرة وملاعبها،  والحافلات البرتقالية كذلك.. ففي ذلك اليوم، عرفت من خلاله، أغنية (الحياة حلوة/فريد الأطرش) وهو يطير في الهواء، ويغنيها بطبقة الجواب السفلي، لأنه حال ذلك، كان في حالة سقوط حرِّ، وكذلك أغنية (جرى أيه يا عزالنا؟/فريد الأطرش) عندما صار يجري بشعره المُجعّد، ووراءه جندي، يراه أمامه، مثل كبش بصوف وفير، فاراً من حظيرة في مزرعة أبيه، أيام كان الرأس، بخمسة وعشرين ديناراً (ويا بلاش) في حين أنه، صار يتقافز على رجل واحدة، كما غزال شارد.

كما أنه، منذ سبعة وعشرين عاماً، حينما كنت راكباً في سيارة لأحد الأقارب، وأنا ما أزال  (شمروخ**) مارين فوق جسر (جليانة) فوجدنا زحمة على الجسر، وإذا به مهرجان للتحدي بينه، وبين ثلة من الشباب، الذين تحدوه بأنْ يرمي بنفسه من فوق في الـ (سبخة) قبل تلوثها بمجاري مجريات حياتنا قبل أي شيءٍ ثانٍ، فرمى بنفسه بـ (صالتو طيّاري رأسي) فيها، وهو يغني:(يا فرحة المية بالحُسن والخِفة/فريد الأطرش).. حينذاك وحيّزاك، لم أؤخذ برميته، بقدر ما أُخِذت بأغنيته الجميلة، التي بحثت عنها طويلاً، حتى وجدتها بعد شهرين، من يوم العيادة، في أشيائه وصناديقه المرمية، التي يلقيها أهل الميت، من ملابس ومقتنيات خاصة له، كي ينسوه، لكنهم يحتفظون بصوره، ويظلون يعلقونها في أرجاء البيت.

فتـّشت في كنوز الصناديق، فيما صفـّت سيارة عسكرية، قفز منها ثلاثة جنود، لينزلوا صندوق طماطم البستان وصندوق زيت (اسبولة) وجوال سكر وآخر دقيق، وثلاثة أكباش، فعثرت على شريط من نسخة شركة (راندفون) المصرية، لصاحبها الموسيقار ‘محي إسماعيل’ مُسجل عليه، أغنية (كلمة عتاب/فريد الأطرش) وكانت أخر أغنياته ، وأنا أستمع للشبابات، اللائي واساهنّ كثيراً، والعجائز، اللواتي قدِمنّ لأداء واجب التعزية من عيادات بنغازي، وهنّ يغنينّ، ويعدّدن مناقبه، في هذه الجملة (التعديدية**): ‘حيه على بوعين كبيرة.. ما بقن امغير تصاويره’ بالقرع على الصناديق.

_______________________________________

(*):حاءٌ في غصّة حلقها.

(**): تـُقال للطفل- في البادية- الذي لا يتجاوز العشر سنوات من عمره.

(***): التعديد، هو نحيب الليبيات في المآتم العامرة بالأحزان- بعيد عنا، وهو ليس ببعيد عن كل مؤمن- وخاصة عند إنشاد الأمهات، بحرقة على فقدان أولادهن، ببكاء ملحون قريحةً، يبتدئنه بعبارة(يانا عليّ يا بوي) -التي نسمعها على الدوام من وراء كواليس المآتم، فنتأسف لمصابهنّ- فيما نحن نتجهز للجنائز، كي يسمعنّ آباءهنّ- حتى إنْ كانوا ميتين- الذين هم عزوتهنّ وعزاؤهنّ في هذه الدنيا، ولا يحسّ بنوائبهنّ غيرهم، أكثر حتى من أزواجهنّ- آباء أبنائهنّ- وأجده أقوى وقعاً من غناوي العلم، المُنتكِسة العلم.

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (12)

أبو إسحاق الغدامسي

دموع العابرين

مهند سليمان

ثلاثُ نمْلات تعبرُ كِتابا

مفتاح العماري

اترك تعليق