ليلة أمس كنا في ضيافته، تركنا الرجل نتحدث ولم يقاطعنا ولم يتكلم، لكنه ما إن أخذ يتحدث حتى صمتنا وصرنا نسمعه باهتمام بالغ. مضى عليه، في فترة مبكرة من عمره، أكثر من عشرة سنوات لم ير فيها السماء في الليل. كانت السماء التي يرونها ما بين 11 صباحاً وحتى 2 ظهراً، وفي اليوم الذي سبق خروجهم أعلموهم بأمر الإفراج وسمحوا لهم وفتحوا ابواب العنابر، يومها شاهد “عبد الرحمن” النجوم. كان أول واحد خرج، فهو نزيل في العنبر القريب من الباحة حين ركض ليُعبر فقط عن فرحة الخروج، لكنه ما إن وجد النجوم في السماء حتى عاد مسرعاً إلى الداخل ليُخبر رفاقه عن النجوم وعن الليل الموجود بالسماء، فتذكر الجميع أنهم لم يروا الليل في الخارج منذ فترات بعيدة ومتفاوتة.
خرجوا تباعاً من باب العنبر الضيق واحد بعد آخر وهم صامتون. كانوا يتذكرون صورة آخر قمر وآخر نجمة رأوها قبل “بوسليم”. تفرقوا وانتشروا في باحة السجن وهم ينظرون إلى أعلى. كانت النجوم كثيرة، كانت أكثر منهم حتى أن بعضهم أخذ أكثر من نجمة وحازها له، لكن أكبر نجم في السماء كان قد اخذه عبد الرحمن لأنه أول مَن أخبرهم. قال لهم أن ذلك النجم الكبير له فلا يقتربون منه، في حين أنتقى كل واحد منهم نجماً أخرى بأحجام متفاوتة، وجلسوا بصمت ينظرون إلى السماء في مشهد بدا للسجان كما لو أنهم يمارسون طقوساً وعبادة.
ذلك الفرح الذي اجتاح “عبد الرحمن” فور سماعه نبأ الإفراج عنه وعن رفاقه تلاشى عند باب السجن في صباح اليوم التالي. وليس الفرح وحسب بل تلاشى كل شيء كان موجوداً في داخله. فلا الفرح والسعادة التي غمرته طيلة الليل بقي منها شيء في داخله ولا ذلك الحزن الذي لفه طيلة العشر سنوات هو الآخر بقيّ منه شيء في داخله. سأل رفيقيه اللذين عن يمينه وعن يساره إن كانا سعيدين أو حزينين فوجدهم يكادان يطيران من الفرح، وتحسس جوفه الذي عاش أكثر من عشرة سنوات حزيناً ثم فجأة امتلأ بالفرح، فلم يجد في داخل جوفه لا الحزن ولا الفرح. حدث ذلك عند الباب الرئيسي لسجن بوسليم. ولم يجد تفسيراً لما حدث.
فهو في الليلة الماضية كان فرحاناً جداً، حتى أنه طفق يشعر بالفرح قد وصل أذنيه وشعر رأسه، وأنه يكاد يستمع لصوت الفرح من داخل أدنيه لأول مرة بحياته، لكنه في الصباح، ساعة فتحوا لهم الباب الخارجي المطل على الشارع وعلى السيارات تلاشى كل شيء ولم يعد سي عبد الرحمن لا حزيناً كالسنوات ولا فرحاناً كالليلة الماضية، وشعر بالعدمية لأول مرة في حياته، وفكر لو يتراجع عن الباب خطوات للوراء لعل الفرح يكون قد انسلخ منه وبقيّ في الداخل، عندها سوف يلبسه كما يلبس القميص والسترة ويعود ويخرج به، لكنه تردد واستبعد فكرة أن يكون الفرح كالقميص وكالسترة، وحين كان رفاقه في غاية السعادة وهو يشعر بقسوة اللاشيء تكاد تمحوه من الوجود عاد عن الباب خطوات، وشاهدوه رفاقه يعود عنهم ويقف في الداخل، ثم بعد خمس دقائق شاهدوه يُحكم أزرار قميصه وسترته جيداً ويتقدم نحوهم بخطوات جديدة.
خارج الباب بخطوات تذكر عبد الرحمن آخر مرة شاهد فيها برميلاً. وحين ترك رفاقه عند باب السجن وذهب ناحية البرميل لم يسألوه إلى أين انت ذاهب ؟ بل لحقوا به، فهم أيضاً لم يروا برميلاً منذ فترات بعيدة ومتفاوتة.
يومها وقف على مسافة من البرميل وصار يتأمله، ووقفوا هم إلى جانبه وصاروا أيضاً يتأملون، في حين جاء أطفال الشارع يستطلعون أمر هذه المجموعة التي تقف وتنظر إلى برميلهم. لم يكلم أحد أحداً. فلا المُفرج عنهم تكلموا ولا أطفال الشارع سألوا المُفرج عنهم، وحين أكمل عبد الرحمن تأملاته للبرميل وتنحى جانباً كان واحد من رفاقه قد تقدم خطوتين وأخذ علبة سردين كانت ملقاة على الأرض على جانب البرميل، رفعها وقربها من أنفه وسأل الأطفال عنها، فأخبروه عنها. وحين وصل اهاليهم إلى باب السجن وسألوا عنهم أخبرهم الحرس الذي يقف عند الباب أنهم خرجوا ومشوا مع هذا الدرب، ولم يمشوا كثيراً ساعة عثروا عليهم يتأملون البرميل. حينها كانت علبة السردين ما زالت في يده ذلك السجين وفي اليد الأخرى كانت علبة حليب كرنيش.