…. يَعْمَدُ الشَّاعِرُ كثيرًا إِلَى نَسْجِ قَصَائِدِهِ عَلَى قَوَالِبَ وأنماطٍ شَعْبِيَّةٍ مَعْرُوفَةٍ، مِثْلَ القَالبِ المَعْرُوفِ شَعْبِيًا بـ (ضَمَّةْ القَشَّة) ذلكَ لأنَّ الشَاعِرَ مَفْتُونٌ بِالشِّعْرِ الشَّعْبِيِ، بقوالِبِهِ وَبُحورِهِ وأَوْزَانِهِ وَتَعَابيرِهِ وَصُورِهِ وأخيلَتِهِ وَمَجَازَاتِهِ، ومن أَمْثِلَةِ هَذَا النَّسْجِ المُكَرَّرَ عِنْدَهُ فِي قَصَائِدَ كثيرَةٍ مِثْلِ قصيدَةِ (مشى في غفله):
مشى في غفله..
ونا كنت ناوي لوعتي نوصفله..
عزيز عَ النظر غَيَّب .. مشى في غفلة
وهذِهِ أيضًا:
يختفن ويبانن..
ويدورد علي قلبي الشوق أحيانًا
مشاعر غلانا ..
كما هيَ الحالُ في قصيدَتِهِ (حنين وخطاوي):
الصبح مداها …
وخيوط خاطري شورك اتمدَّ اخطاها
خيوط فجرنا مدَّت الصبح مداها
وأغنية: ( اقربني):
تعال احذاي..
يكفي اغياب وهجر خوذ الراي..
مشتاقلك اقرب. .
*****
وَإِن كُنَّا، فِي جُلِّ قَصَائِدِ الشَّاعِرِ سالم درياق، نَلْحَظُ هَذَا الاحْتِفَاءَ الحَمِيمَ بِلُغَتِهِ اليَوْمِيَّةِ، لُغَةِ أَهْلِهِ وَمُقَاسِمِيهِ مُحِيطَهُ، لَيَكْتُبَ بِلِسَانِ النَّاسِ بِوَاقِعِيَّةٍ تَخْلُو مِنَ البَرْقَشَةِ وَالتَّنْمِيقِ المُتَكَلِّفِ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي قَصِيدَتِهِ المَجْنَونَةِ (مجنونة) يُبِيحُ لِخَيَالِهِ الجُنُوحَ لِعِنَاقِ عَاِشقٍ مُتَخَيِّلٍ يَتَمَنَّاهُ الشُّاعَرُ العَاشِقُ بِصِفَاتٍ اِسْتِثْنَائِيَّةٍ يَرْسُمُهَا عَاشِقٌ اسْتِثْنَائِيٌّ، لِذَا فَالشَّاعِرُ يُطْلِق ُلِلُغَتِهِ عِنَانَ مَجَازِهَا لتلتَقِطَ أَلْفَاظًا في تسبِحَ في عَنَانِ الْرُّومانسيَّةِ لا تَتَكَرَّرُ فِي قَامُوسِ أَغَانِيهِ الأُخْرِيَاتِ؛ كَقُولِهِ:
” مَتْفَرِّد موش كلاسيكي… ” من قصيدَتِهِ (قصيدة مجنونة)؛ يقولُ:
نا نبِّي غالي يفهمني
من نظرات اعيوني ليه
من غير كلام ايكلمني
ويجيني قبل انَّاديه
وينوِّر ليلي بشموعه
ويطفِّي نيران اللَّوعه
نبّي غالي كلّه روعه
واللِّي مش فِ العالم فيه
. .
نا نِبِّي غالي مش عادي
ما يشبه غالي لخرين
وصفه بين الناس افرادي
واصل حد احدود الزين
باسم الحب ايكون شريكي
متفرِّد موش كلاسيكي
ما عنده فالكون شبيه
وكقولِهِ منِ القَصَيدَةِ ذاتِهَا: ” يَسَّرَّب بينَ مساماتي” ، يقولُ:
” ….
حال الود انحصِّل غالي
يَسَّرَّب بين مسامتي
يقلب كِلّ الواطي عالي
ويعاود ترتيب حياتي
ينفضني ويهزّْْ كياني
يكتبلي عمري من ثاني
يحفظني صَمّْ ويقراني
ويعلم باللِّي نحلم بيه ..”
وعلى الرُّغْمِ من تلقائِيَّةِ الشَّاعِرِ، وعفويَّةِ تدفُّقِهِ، وسهولَةِ نسجِهِ، وَالفَضَاءِ الشَّعْبِيِّ الأَصِيلِ الَّذِي اختارَهُ لِعَرَائِسِ وِجْدَانِهِ المضيئةِ، إلاَّ أنَّهُ في بعض منسوجَاتِهِ الشعريَّةِ يمنحُ قلبَهُ جناحي ليحلِّق في سماواتِ الرُّومَانسيَّةِ مبدعًا قصائدَ مدهشةً، أُغْنِيَاتٍ مُغْرَقَةٍ فِي العذوبَةِ والرِّقَّةِ كما في قصيدَتِهِ ( يخطر عليك ..) التي يغرِّد فيها حالمًا :
ايجيك شيّْ ما يخطر عليك
ولا دايره فِ حسابك
ويجيك شي ما يخطر عليك
ويفارقوك أحبابك
والوقت فعلاً ما عليه بعيده
ايبيعك اللِّي مشتاقله وتريده
ويهونك اللِّي ظنِّيت دوبَه دابَكْ
ايجيك شيّْ ما يخطر عليك
ولادايره فْ حسابك
*****
والْحُكْمُ الجَمَالِيُّ عَيْنُهُ يَجْرِي عَلَى قَصِيدَةِ (حلو الزعل)، بسردِهِ فيضًا مِنَ المشاعرِ الرَّهيفةِ، فيقول:
رهيف المشاعر ينجرح مِ النِّسمه
خفيفة علي وجه الوطا خطواته
بانت الطيبة واضحة في رسمه
تسبق معالم لومته بسماته
حنون طبع ما هو قاسي
عطَّرت بيه أنفاسي
كريم نفس ما يعرف ايقلّْ
اللِّي حلو حتى فِ الزعل
*****
ودرياق سَيَبْتَكِرُ خِطَابَاتٍ غنائيَّةً غيرَ مَسبوقَةٍ يَتَفَنَّنُ فيها بإيرادِ تعابيرَ معروفَةٍ يلوكُهَا النَّاسُ دونَ أن يَقِفُوا عَلَى التَّمَعُّنِ في مَدْلُولاتِهَا، فَفِي قَصِيدَتِهِ (شوف) ينتقي الشَّاعِرُ بعضَ بَادِئَاتِ الكَلامِ، مَفَاتيحِهِ المُعْتَادَةِ، مِثل: ( شوف، قتلك، ريت، اسمعني) وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الكَلِمَاتِ السَّابِقَةِ بَادِئَةٌ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الكَلامُ، وَيُسْتَهَلُّ بِهَا الحَدِيثُ، لِيَضَعَ المُتَحَدِّثُ مُسْتَمِعِيهِ فِي صَيْرُورَةِ الحَدَثِ، الَّذِي كَأَنَّهُ يَرَاهُ ( شوف) أَوْ كَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ (قِتْلَكْ) أَيْ: قُلْتُ لَكَ، وإن لم يقلْهُ لَهُ بَعْدُ، أو (ريت) بِمَعْنى (رأيت) المَاضِيَةُ فعلاً والمقصودُ بِهَا الرُّؤيَةُ الحَالِيَةُ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِالانْتِبَاهِ لِلْمُتَحَدِّثِ، أو (اسمعني) وهي فِعْلُ تَنْبِيهٍ واضِحٍ جَلِيٍّ. يقولُ:
“… شوف ..
ما تقولي مشتاقلك ملهوف
أنت اللِّي غايب عليَّا … شوف
—–
قِتْلَكْ..
لاما تقول أشواقنا حَنَّتلك
ياما شموعي فِ الظَّلام ضوتلك
واليوم طَفَّتَها ارياح الخوف
وليها أيَّام العين مشتاقتلك
وأنتَ انسيت الفضل والمعروف
شوف
_ _ _ _
اسمعني ..
ما تقولي جمر الفراق لذعني
أنت اللِّي بأرخص ثمن بايعني ..
من غير درقة بيع عَ المكشوف
وأنتَ علي غفلات ناوي طعني
طعنة قويَّة في أعماق الجوف
_ _ _ _
ريت ..
لاما تقول اشتقتلك حَنَّيت
أنت اللِّي غايب عليّْ بطيت
وتقولي اعطف عليّا روف
ياما بشاير جَيَّتك راجيت ..
خلِّيتني كيف الغريب انطوف
شوف ..”
*****
ويمضي الشاعرُ المُجيدُ سالم درياق في ابتكاراتِهِ الشِّعْرِيَّةِ المدهشَةِ، فينشئُ هذهِ الرِّسَالَةَ الإدَارِيَّةَ الجَمِيلَةَ (رسالة ودّ):
” إلى من يهمُّه أمري
حضرةْ حبيبي وعمري
بعد التحيَّة ،،
بالإشارة إلى الغية اللِّي لَمَّتنا
وأشواق حلوة في خفا ضَمَّتنا
وحيث إن العمر من غيرك عذاب مرير
والصوب لا يمكن بلاك ايصير
عليه
ما نحتمل لحظة بعيده عني
ونا عارفك كيفي بشوق اتحنِّي
وكان غبت عنك بالبكا تنهمري
والسلام أفضل ختام
التوقيع: المخلص عَ الدوام.
******
ذَاتَ اندهاشٍ كَتَبْتُ لَصَديقي الشَّاعِرِ سالم درياق، مُعَلِّقًا على إِحْدَى رَوَائِعِهِ الغِنائيَّةِ، هذهِ الكَلِمَاتِ:
” كُنْ بِخَيْرٍ دائًما صَدِيقي، يُعْجِبُنِي تَدَفُّقُكَ الشِّعْرِيُّ، وَحِفَاظُكَ على مستوى جَودَةِ نُصُوصِكَ بِلا تكلُّفِ ولا استرخَاءٍ ولا تَرَهُّلٍ. نَصُّكَ يكتمِلُ باكتمالِ اعتمَالِ الحَالَةِ الشَّعْرِيَّةِ في وجدانِكَ بِالقَبْضِ على اللَّحْظَةِ المُتَوَهِّجَةِ .. اِسْتِفَادَتُكَ مِنَ الشِّعْرِ الشَّعْبِيِّ تَمْنَحَ نَصَّكَ مَزِيَّةً وَفَرَادَةً .. رُبَّمَا سَأَدْرُسُ نُصُوصَكَ يَوْمًا لو أَعَانَنِي اللهُ على ذَلِكَ .. مَحَبَّتِي ..”
وَهَا أَنَذا أَسْعَدُ بِأَنْ شَرَّفَنِي بِتَقْدِيمِ دِيوَانِهِ الَجميلِ (عين وطارت) لَعَلِّي أُعِينَ المُتَلَقِّيَ على تَحَسُّسِ عَوَالِمِ الجَمَالِ فيهِ، وَمَكَامَنِ الفِتْنَةِ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لا تُخْطِئُهَا الأَعْيُنُ، وَلا تَضِلُّ عَنْهَا القُلُوبُ، وَأَدَلُّهُ بَسَبَقِي عَلَى صَدَفَاتِهِ الشِّعْرِيَّةِ المَائِزَةِ، عَلَى تَلَمُّسِ الدَّهْشَةِ المُورِقَةِ المُونِقَةِ، وعلى لِذَاذَاتِ اللَّحَظَاتِ الشِّعْرِيَّةِ المُضِيئَةِ، الَّتِي تَحْفُلُ بِهَا جُلُّ قَصَائِدِ هذا الشَّاعِرِ البَاذِخِ بِأَحَاسِيسِهِ الرَّاقِيَةِ، وَمَشَاعِرِهِ الوَارِفَةِ.
بيروت 10/ 5 / 2016 م.