طالما شعرتُ بالضجر كل ما أتذكر الأشياء المزعجة في حياتي ، كنت أقول لنفسي ماذا لو كانت الحياة كلها مرح ،، هل يمكن أن يعيش المرء بين الناس ويحظى بالسعادة ولا يجد ما يكدر ذهنه ويعكر عليه مزاجه ، طبعا ، هذا مستحيل ، فالإنسان كما يقول ( ابن خلدون ) كائن اجتماعي بطبعه ، وبالتالي لا يستطيع التكيف دونما ارتباط بالعالم الخارجي ، معنى ذلك ، أنه لا يعيش بمفرده ، فهو معرضا في أي لحظة لخطر القلق والاضطراب ، وأحيانا يتعرض للقهر والإساءة من الجماعة ، لذلك نرى كثيرا من الناس يبتعدون عن المجتمع و يفضلون العزلة ، لكن هل يستطيع الفرد أن يعيش بعيدا عن الناس والمجتمع ؟ . الإجابة بالطبع ( لا ) ، سيصبح في نظر الجميع بلا انتماء ككلبٍ ضال .
أحيانا ، أتذكر بأن الحياة ليست كلها سعادة ، لا بد من وجود مخلوقات معرقلة أو كائنات تمتهن التشويش كالذباب والخنافس الكريهة ، إذ بدونها لا يمكن تحقيق وجودنا ، أن جميع الكائنات الحية دون استثناء تخضع لقانون أزلي يقول ( أن لكل شيء حكمة ) ، فالذباب على الرغم من إنه كائن هامشي ، يخضع أيضا وبصورة فجة لهذه الحكمة كباقي المخلوقات ، حيث تتلخص مهمة الذباب في استكمال الوجه المناهض لسعادة الإنسان .. وليس من المتوقع في هذا العالم أن نشعر بشيء دونما أن يكون هناك من يمثله ، فالناس منذ العصور التاريخية تعلم بأن ( الله ) هو من يمثل الخير ، و ( الشيطان ) أو ما ينوب عنه كان على الدوام ، وفي جميع الأحوال هو من ينهض بفعل الشر ، كذلك الذباب ، يمكن اعتباره وفقا لهاته الرؤية ممثلا لكل فعل تافه في الحياة ..
إن التهور وما رافقه من طيش يعد في الحقيقة تمرد على سلطة المجتمع ، حيث التعبير التقليدي عن الحرية الشخصية كان منذ ظهور النزعة الفردية ينظر إليه على أنه نوع من الأنانية المفرطة ، لأن الفرد وفقا لكثير من المجتمعات الإنسانية لا قيمة له ، ومصلحته يجب أن تذوب إذا تعارضت مع النظام العام الذي تفرضه المجتمعات بقوة القانون .. ومن هذا المنظور المشحون بالتسلط والتعالي على الأفراد ، فإني سأعمل ، ومن هذه الساعة ، على تحقيق عالمي الخاص خارج منظومة السلطة ، وعلى رأي ” جيل دولوز ” لا يمكن أن يكون هنالك مجتمعات مثالية، إلا إذا كان الأفراد أحرارا ، فحتى عندما يكون هنالك قمع في مجتمع ما ، فإن هنالك حق الأفراد في الانتفاضة والتمرد والثورة .
أكثر ما يقرفني ، صراحة ، تلك الفكرة التي تدعم الرأي المشاع في حياتنا الاجتماعية ، فالاتفاق والثوابت والإجماع وغيرها من المصطلحات ، تسعى وبشكل ساحر إلى تخدير عقولنا وتنويمها ، ويكون تأثيرها في العادة ، أشبه بتأثير الحشيش على عقول المدمنين ، غير أن الفرق بين ذاكرة المدمنين وذاكرتنا الجمعية ، هو أنهم على علم بتعاطي المخدرات ، ونحن لا نعلم بأننا تحت تأثيرها .
كنت فيما مضى أحرص باستمرار على احترام العادات والتقاليد ، وفي لحظة ما ، علمتُ بأن أغلبها يتعارض و أوامر الدين ، خاصة حينما أرى الناس يدافعون عنها ويؤكدون على قدسيتها ، فلا يوجد ما يعرف بالبديهيات أو الثوابت ( كما يزعمون ) في علم الاجتماع الذي هو في الأساس علم الأفراد ، فالإنسان خلق حرا ، وبالتالي فهو الوحيد الذي من حقه أن يختار كيف يعيش وبالطريقة التي تعجبه ، ولا يحق للمجتمع على وجه التحديد أن يفرض عليه أسلوبا معينا باسم ( الأصول ) أو أي مسمى من المسميات التي ترمي إلى إلغائه واخضاعه لمجتمع الأقنان ..
أعلم بأن الاختلاف يُنعت دائما بالشذوذ ، وأصحابه يتهمون بالخيانة . لكن هذا ليس مهما ، المهم في نظري هو رفض العادات السيئة بالمجتمع ، لا من أجل فعل الرفض والفوضى فحسب ، وإنما من أجل مكانة الفرد وتطلعاته الذاتية ، فحرية الإنسان – على قول روسو – لا تكمن في أنه يستطيع أن يفعل ما يُريد ، بل في أنه لا يجب عليه فعل ما لا يريد ” ..
- مدير تحرير مجلة رؤى