يا مطر صبي صبي….
صبي على حوش القبي….
والقبي ما عنده شي…. غير خبيزة والشيشي….
تنتابني الحيرة واتساءل لماذا لا توجد أهزوجة عن “التبروري”…. بينما للمطر ابياتٌ طويلة يخيل لي في طفولتي أنها لاتنتهي، وكلما أكملنا بيتا وجدنا آخر في جعبة أحدٍ من الكبار…
والباشا ما عنده شي….. غير خبيزة والشيشي….
ولفظ “التبروري” في حد ذاته أهزوجة قصيرة “تااااااااا” “بروووووووو ري” ..أشعر وكأنه لفظ لا ينسجم ولغتنا المحكية أو المقرؤة… كلمة تختلف عن ما يصاحبها من برق ورعد ومطر وصقيع وكلها كلمات عربية قحة، عدا “التبروري”.
كان “التبروري” في شكل حصى أو كريات من الجليد الأبيض يقرع نوافذنا أناء الليل و أطراف النهار، يوقظنا من نومنا العميق تحت كم من “البطاطين” الصوفية الخشنة، يخيل الينا وكأنه يلسع أقدامنا الصغيرة الدافئة كلما ضلت طريقها من تحت ثنيات البطاطين التي كنا نلف بها أقدامنا.
تبروري… تبروري …. تعالوا…
ومن خلف شقوق “الشيش” الخشبي، نقترب ونحاول أن نراه، نتفاجأ بهجومه الشرس علينا، نتقهقر إلى الخلف ونحرك رؤوسنا وكأننا نتفادى كرياته المصوبة نحونا ونضغط على عيوننا فتتكرمش كأوراق كراريسنا المبتلة.
نحلم بالثلج، كما نراه في القصص المصورة، وبطاقات المعايدة التي نتسلى بفتحها فتصدر عنها نغمة رقيقة مكررة. لانتخيل “سندريلا” أو “ذات الرداء الأحمر” أو “بياض الثلج والأقزام السبعة” في حينا أو في الجوار أو حتى في مدينتا، نتخيلها في مدن ثلجية سكانها طوال القامة، شعورهم صفراء متهدلة على أكتافهم، عيونهم زجاجات ملونة، يسيرون في شوارع تتكوم على نواصيها ندف الثلج، وتنفث مداخن بيوتهم الدفء المنبعث من الاغصان المتوهجة.
كانت جدتي تحكي لنا عن الثلج في جبل غريان…. حين سقطت قنابل الحلفاء على طرابلس وحصدت ارواح الأبرياء من قاطنيها، وفي أحدى الليالي وبعد أن هرع الجميع الى الملجأ قرر جدي العودة والبقاء في المربوعة، فوجدها ركاما من الحجر، عندها قرر ارسال العائلة بأكملها إلى غريان بمن فيهم أبونا صغيرا.. أودعهم “الشمنديفير”، وكان في استقبالهم صديقه التاجر الغرياني “ثليج” الذي اسكنهم بيتاً مدفونا في الجبل يصلونه عن طريق ممر طويل وضيق تنيره فتحتا الدخول والخروج الى باحة الحوش الواسعة العارية بلاسقف، تحيط به أبواب محفورة تؤدي إلى حجراته، ينزل اليها بدرجين، محفوفة بمسطبة من الطين، ارضيتها الترابية مغطاة بالحصر.
كانت تقول…”شبحنا الثلج في حوش ثليج”… وتضحك..
كان الثلج يتساقط ويستقر في باحة “الحوش”، وكان صغار العائلة ينطلقون في الباحة يحاولون تلقفه، يفتحون أفواههم لإقتناصه وتذوقه بألسنتهم.
” اللاي الثلج … زي التبروري”؟
“لا لا فرقت حال التبروري، الثلج خفيّف زي الريش، التبروري يدمغ”
جدتي وأبي وأعمامي وعماتي رأوا الثلج ونحن لم نر سوى التبروري….
وفي الصباح الباكر، يلف أبي جسده “بالكشابية” الصوف، نركب معه السيارة، يقودها بصعوبة في الطريق الترابي وسط الأخاديد التي حفرتها سيول الأمطار المنحدرة نحو ساحل البحر القريب من بيتنا. كان التبروري يقذف بحصاه تجاه كل النوافذ، كنا نستمتع بتكتكات صوته المتلاحقة المختلفة بحسب حجمه بعضها قوي كالفرقعة والآخر ذو تكة.
تتوقف السيارة أمام المدرسة، نخرج منها مسرعين ونحن نحتمي بحقائبنا وونطلق إلى الداخل، وفي مثل هذا اليوم لا نقف في طابور الصباح، ولا نصدح بالنشيد الوطني ولا نحيي العلم. وما إن تظهر الشمس أو تَلَوح باشعتها الخجلى من وراء السحب الرمادية ذات الاشكال المتحركة، حتى تذوب كريات الجليد وتترك بركاً مائية متناثرة على تراب الساحة.
كانت أصابعنا تتورم ويجتاحنا احساس بهرشها، ونجد صعوبة في الامساك بالقلم… تنمو على جلد ايادينا طبقة بيضاء خشنة من “الوشن” نزيلها بدهان أبيض لزج محفوظ في علبة معدنية زرقاء، وتصبح ممارسة العقاب بالعصا نوعا من التعذيب.
ننظر من نوافذ الفصل…..
“ياخسارة التبروري مشي”
قلما نتجرأ على الخروج لمواجهة التبروري، وقلما نقبض عليه بأيادينا لأوقات طويلة….. قلما يسقط التبروري وقلما نستمتع به…….كان يهجم وسرعان ما يختفي…
طرابلس/ 16. 12. 2010