لم ألتق بأمّي، بعد طلاقها من أبي تزوجت. وبقيت مع جدي وجدتي، انقطعت الصلة بها تمامًا.
كنت دائمًا أتخيل ملامحها، أرسمها في مخيلتي، أراها أجمل الجميلات. وأحلى النساء، فكل الأمهات رائعات، أختلس من وجوه أمهات أصدقائي الأطفال وجهًا لها، أنقشه في خلوتي، إلي أن شاء القدر، والتقيت بها في الخامسة عشرة من عمري، وقبل أن تكتمل تفاصيل ملامحها في ذاكرتي رحلت عن هذه الدنيا، وعدت أحفر تضاريس وجهها في ذاكرتي من جديد. لملمت كل جزء منها داخلي. لكنني لم أكتف.
عندما أتحدث أود لو أن الناس، شاركوني الرحيل عبر خرائط ملامحها. لم تعد تفاصيل ذاكرتي المخزنة تكفي لوصفها. بحثت عن صورة فوتوغرافية لها. سألت إخوتي، خالاتي، كل الأقرباء. لكن لا صورة لها، لم تكن لها بطاقة، أو جواز سفر، لم تسافر قط، لهذا لم تقف أمام مصور. ذات مرة ذكرت لي أصغر خالاتي أن الصورة الوحيدة لها بعثوها لابنها عندما كان مسجونًا، ضاعت هناك، أو صادرها حراس السجن. وأضافت قائلة:- إن ملامحها غير واضحة بتلك الصورة الجماعية.
أدركت عندها أن وجه أمّي تماهى عبر تضاريس الوطن، سكن السهول، والوديان، والمطر، ونام تحت جذور الشجر، وانفسح مع زرقة السماء، وضوّأ مع القمر والنجوم، وتسلل إلى عبق الزهر، واستنشق رائحة التراب، وذاب في ملح البحر، لا أدري ماالذي جعلني أتذكر وجه أمّي هذه السنوات، وتستبد بي رغبة جارفة لإيجاد صورة فوتوغرافية لها، وهوسي بالتحديق في خارطة الوطن. هل أحاول أن أعثر على ملامح أمّي في خارطة وطن يكاد يختفي ويتلاشى، أم أنني أبحث عن وطن تلملمه قلوب يمزقها الوجع حتى لا يمحى من الذاكرة، أو يٌسرق معه وجه أمّي؟
تعليق واحد
جميل لكاتب جميل