تراث

حاملات السر*

يوم في حياة امرأة من الجنوب الليبي

هي شهادة حية لما روته لي سيدات براك/الشاطي[1] حين التقيتهن في رحلة دراسية تقصدت جمع الموروث الحكائي منهن، وكان من الضروري أن ألم بتفاصيل حياتهن وهن من حملن الرسالة التربوية الاولى (الحكي الشعبي) التي عمرن بها مخيلة وذاكرة أبنائهن وكانت هذه حكايتهن محوصلة من ذاكرة عشرينيات القرن المنصرم كن فيها ممتلئات حيوية ونشاطا يؤمن بأن لا قيمة للحياة دون العمل والكد.. والسرد!

وقد هيأت الظروف البيئية للمرأة (الفتاة، أوالزوجة، أوالأم) في واحة براك (جنوب ليبيا) أن تؤدي دوراً اقتصادياً واجتماعياً داخل منزلها وخارجه، وهي في أبسط صورها مثلت الحياة المستقرة والمزدهرة التي يُرجع الأهالي فضلها إلى الماء الذي أوجد الزراعة، والنخلة المعطاء بنتاجها المتنوع طعاماً واستخداماً في بناء المسكن والصناعـات البسيطة، وهو دور مسئول بتفرده، ومشارك في تهيئة كل الظروف المناسبة لتمكين الآخرين من القيام بأدوارهم كما يجب أن تكون فمن الواجب استمرار العائلة واستقرارها، وقد أسهمت المرأة بجهدها راعية وواعية لما تقدمه لعائلتها حسب الحاجة والضرورة، وعلى كثرة واجباتها كعاملة ومنتجة، ومتلاحمة إذا ما تطلب العمل المشاركة الجماعية في أدائه، فمن خلال ما نقلته الراويات عن النساء في الواحة أنهن حظين بالاحترام، وعوملن من قبل الرجال كأخوات لهن تقديرهن الذي يحفظ كرامتهن، وذلك كله نتاج أعراف وتقاليد اجتماعية سادت لم يخالفها الجميع، فلم يحتج أو يعترض على خروجها وتنقلها ومشاركتها الحرة جنباً إلى جنب الرجال، متكيفة مع الظروف الطبيعية كيفما كانت فمعه شاركت شغلاً وزراعة في البساتين وغابات النخيل.

حظين بالاحترام، وعوملن من قبل الرجال كأخوات لهن تقديرهن…

– ففي العمل الزراعي تعاونت مع الرجال في نواح عدة كتوزيع السماد الحيواني على الجداول المعدة للزرع، فالمرأة هي التي تحفر حفراً صغيرة في السواقي أو أطراف الجداول لوضع حبات الشعير في ما يسمى (التنقير)، ومع موسم الحصاد وبعد أن يقوم الرجال بدق الشعير الجاف (الدقاقة)، تأخذ المرأة في ممارسة المهمة الشاقة حيث تخرج لفصل الحبوب عن التبن (تدران الشعير) وهو شوك الحسك الرقيق المؤذي.

– ومع الانتقال للسكن الصيفي (الخص يعد من سعف النخيل) يحين موعد التقاط وجمع تمار النخيل لفترة تمتد من أول نضجه إلى أوان هبوب الرياح التي تساقطه جافاً (النفيض) إلى طمره في الرمل (المطمور)، وفيه تسعى النساء بكل نشاط مشاركات في كل مراحل جنى التمور، وإلى أن يتم نقله على رؤسهن بسلال خاصة (القفه وجمعها: القفاف).

ومن الأعمال اليومية إخراج الأغنام من الحظائر، ورعيها وتغذيتها صباحاً ومساءً وأحياناً تخرج المرأة إلى الحقول لتحضر البرسيم (القضب)، إذا ما تقاسمت العمل مع زوجها.

ولتدفئة بيتها وطهي طعام عائلتها، تخرج المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل لجمع الحطب، أما ما يتطلب مجهوداً عضلياً كحمل الفأس وقطع الكرناف والجمع، ثم الربط بالحبال والنقل على الظهور إلى البيوت فهي مهمة الرجال فيما تشارك بحمل عراجين النخل والجريد، فهما حطب تنورها (الفرن).

أما ما تنفرد به المرأة في الواحـة لخدمـة منزلهـا والقيام على عائلتهـا، فهو جهد مضاعف يفوق ما يؤديه الرجال، إذا ما جمعنـا دورهـا المنزلي مع دورها الإنتاجي، فمن الصباح الباكر توقظ أطفالها للذهاب إلى الجامع (محضرة تعليم القرآن) وتكون قبلها قد جلبت الماء من العين (عين القصر أو عين إبرو) بسطلها أو (الباقول) لاستحمام أطفالها ولإفطارهم، ثم القيام على نظافة بيتها.

المسؤوليات الملقاة على عاتقهن أكبر من كُل عون…

وتتنوع وظائفها بعد ذلك لإنتاج حاجيات البيت، فلها أن تتجه إلى بستانها، أو إلى حظائر الأغنام، أو الذهاب إلى العين لغسل ملابس العائلة، أو لتجهيز عجين خبزها إذا ما توفر القمح ثم طحنه بالرحى، أو تدق النوى والذي هو كالرحى يحتاج إلى جهد، فنوى التمر بذرة صلبة تدقها النساء ليسهل تقديمها للأغنام كعلف، ويتم ذلك بقطعة صخرية (صوان) تسمى (درهوبة) وتكون على الأرض لاستقبـال المدقوق منه صخرة بها حفرة دائريـة محوطة بـ (حُوطة) وهي عبارة عن عرجون نخيل مطوع ملفوف بقماش دائري، حتى لا يتناثر النوى عند البدء بدقه، ويلي الدق حفظ النوى منقوعاً في الماء بإناء فخاري لساعات ثم يصفي، ومن يملك نخالة شعير يخلطها بالنوى المدقوق، وتعطى للغنم وبخاصة غنم الأضاحي لاعتقاد الأهالي أن هذه الوجبة كفيلة بتسمين الأضحية وتغذيتها. ولنا أن نلاحظ أن الأعباء داخل المنزل وخارجه، تزداد حملاً وثقلاً على المرأة إذا كان الزوج غائباً غياب هجرة، أو غياب وفاة وفقد[2] فحتى وإن لم يتوان الأقارب والأهالي في تقديم العون غذاءً وسؤالاً عن أي شيء تفتقده، إلا أن المسؤوليات الملقاة على عاتقها أكبر من كل عون، خاصة إذا ما كان لديها أبناء فالحمل أكبر، وعليها التعامل مع قسوة الحياة  بفاعلية واعتماداً على ذاتها، فهي من تدفع بصغارها إلى فقيه الجامع، وتصطحب القادرين على العمل معها إلى بستانها ونخيلها، لتقتات من منتوج أرضها، كما تشارك الأخريات عملهن في الصوف وغزله، فالمسداة عمل تشاركي، بدءً من غسل الصوف وطرحه على الرمال لتجفيفه، ثم تنقيته من الشوائب (الودح)، مع وضعه في حفرة مقعرة وضربه بالكرناف، ويجلس المتعاونون نساءً وأطفالاً لفك ما انعقد أو تلبد، ووضعه قطعاً قطعاً على “القرداش” وهو عبارة عن لوحتين خشبيتين مربعتين تبرز منهما أسنان معدنية بارزة تلتقيان عند وضع الصوف بينهما بعد تحريكهما بمقبض متصل بكل لوحة، وبعدها يبدأ عمل المسداة بالخيط الرقيق من الصوف (الجداد)، والخيط الغليظ (الطعمة)، وتنسج النساء غطاء الرأس خاصتها التي تسمى(الوزرة) أما الجرد، أو العباءة فلأزواجهن أو للمقايضـة عنـد الحاجة ببدائل أخرى كالشعير أو القافولي، أو التمر، وقد تبعنه نقداً.

يا نفيستي إنشا الله تتهنـي… في كـل جمعـه تضفـري وتحنـي…

وبالإضافة إلى صناعة النسيج هناك صناعات أخرى صغيرة مارستها النساء وعكست فنهن وذوقهن وابتكاراتهن الجميلة: كالأطبـاق المختلفة الأحجام والأشكال والاستعمالات، والعقود (الخناقات) التى زينت جيدهن، وعادة ما تتميز باحتوائها أبخرة معجونة ومجففة ومشكلة هندسياً (كروية أو سداسية) تعـد في البيـوت، أو مع المناسبات (الختـان والأعراس) ذات روائح عطرة (كالصخاب)، فالنساء في الواحة لم يهملن مظهرهن حتى وإن كانت الحياة بسيطة، ولم يتوفر فيها ما غلا ثمنه، إلا أن الكحل للعين والحناء للشعر والكفين والقدمين، فالبخور المتصاعد في البيوت وضفائر الشعر الفواحة والمغداة بزيت الزيتون كانتا لازمتين، ومن ضروريات أنوثة كل امرأة ، بل وتلام وتعاتب حين إهمالها، ولعل ما تردده النساء في الواحة طلباً لذات متجملة، يتمثل في هذا البيت:

يا نفيستي إنشا الله تتهنـي
في كـل جمعـه تضفـري وتحنـي.

ومع ما تتطلبه الضفيرة من جهد فهي مرغوبة، ومع أن الحناء كصبغة في العادة تظل لأكثر من أسبوعين إلا أن تلوين الشعر والأيدي والأقدام شرط الهناء والسعادة!

وهكذا كان ديدن الحياة للمرأة فى براك في الواحة صيفاً وشتاءً، خدمات وواجبات متعددة: رعي، وزراعة، وتحطيب، وتنظيف، وامتيـاح للماء للقيـام على نظافـة كل فرد في العائلة، وخبيز، وطهي، وممارسة لصناعات يدوية مختلفة : الرحى  والمسداة، ومستلـزمات المطبخ وخياطة الملابس وترقيعها، فلا امرأة تستثنى من ذلك، حياة كلها عمل وكد ونبذ للكسل والتهاون والفراغ، من أول الصباح إلى آخر الليل، تقود كل اقتصاديات بيتها من مزرعتها الصغيرة وآلاتها البسيطة (الرحى)، لتخلق حياة مستقرة، مستخدمة قدراتها على التكيف والتعاطي مع موارد الواحة، مستغلة كل ما تجود به البيئة لتحقيق معيشة تصل إلى حدود سد الحاجة، وبتحد وصبر فبدت منتجة صانعة, مبتكرة، ومخترعة، عارفة ومدبرة، وحكيمة. وفي حقبة شهدت حرمان من التعليم حتى وهن صغيرات السن حظر عليهن دخول المحضرة، فالنساء لم يكن قد حفظن القرآن أو عرفن تأدية الصلوات إلا نقلاً عن أب أو زوج إذا ما تطوع هو بذلك.

وقد التقيت باثنتين من نساء[3] محون أميتهن داخل المدرسة الإيطاليـة الابتدائية في ثلاثينيات القرن المنصرم عبرتا عن مشاعرهما، وكيف أنهما فرحتا وشعرتا بقيمتهما عندما درستا ثلاث سنوات مع تلاميذ الواحة الآخرين، وتذكرت مهارة أحمد أسماء معليميها فمن طرابلس قدم إليهم مصطفى الأسطى، ومحمد بن زيتون وكان معلم الاحتياط أبوبكر مرسيط، وحكت مهاره عن تطلع صويحيباتها الأخريات إلى التعلم ولكن النظرة التقليدية التي شككت في قدرتهن على ذلك عرقلت دخولهن آنذاك، بالرغم من تميز واحة براك عن الواحات القريبة منها بانعدام الأمية بين رجالها فى فترة مبكرة، فقد دخلت الفتيات المدارس في منتصف الخمسينات وازداد عدد الراغبات في محو أميتهن والدراسة مع أوائل الستينيات عندما افتتحت مدرسة خاصة بالبنات إرتادتها بعض من فتيات الواحات المجاورة.[4]

ومع كل تلك الظروف التي قست على المرأة، فإن تعدد أدوارها ومسئولياتها ومجالات أنشطتها عزز من شخصيتها، فقد حوى سجل حياتها خلاصـة ومخزون تجارب، وهو خليط من الفعل والمعاناة، فما اكتسبته وتعلمته وخبرته، جعلها جديرة بتنشئة أبنائها اجتماعيا، مؤكدة على القيم الأصيلة، عاملة على نقل موروث الجماعة  مما هو عظة وعبرة من صور الماضي في الحاضر, وبحكم أنها الأقرب لأبنائها بعاطفتها وحنوها، فقد تعددت طرائقها في تربيتهم، ولأنها مرآة حياتهم فمنذ مهدهم يصحون على دبيبها ونشاطها، وينامون على ما تؤسس به ذاكرتهم ومخيلتهم، وما أكتنز في شواهدها تجود به لهم حكايات وحواديث وأغاني، لتمنحهم مفاتيح المستقبل إذا ما ثابروا وعملوا وتحدوا وصبروا، حالمة بأبناء صالحين، يحملون قيماً دينية متوارثة، يتولى الآباء أيضا غرسها فيهم، كلما صحبوهم إلى جامعهم وفقيهه، أو في أعيادهم الدينية، وفي ممارساتهم اليومية كلما رافقوهم.

________________________________________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

الهوامش:

* حاملات السر: عنوان الاصدار التراثي الصادر للباحثة عن مركز البحوث والدراسات التاريخية (مركز الجهاد الليبي سابقا)،  2012، بيروت.

[1] تقع براك شرق وادي الشاطي ضمن سلسلة من الواحات الممتدة، تبدأ شرقا بأ شكدة وتنتهي غربا بأ دري، وواحة براك أكبرها كثافة سكانية قديما وحديثا، وكانت مركزا إدرايا وتجاريا لإقليم فزان بصفتها محطة لتجارة القوافل ونموذجا للواحة المستقرة ثم مدينة حضرية في الوقت نفسه.

[2] كان رجال براك يرتحلون في الغالب إلى طرابلس وبنغازي قصد العمل وكسب الرزق، وهم في العادة يعودون حتى وإن طالت سنوات الهجرة (من ثلاث إلى سبع سنوات كما ذكر الرواة) فالرجوع مسألة أساسية، وعادة ما يجلبون معهم ما حصلوه من حاجيات أو عملة نقدية، وقد يرسلون ما جمعوه مع العائدين قبلهم بعد أن يقسموه على ثلاثة أثلاث بقولهم المتعارف: قرش ناكله، وقرش ندزه، (أبعث به) وقرش نعقبه (أدخره).

[3] النساء اللاتي محون أميتهن ثلاثينيات القون الماضي: أمنة ددو – مهارة أحمد عبد النبي – إمباركة عبدالوهاب – فاطمة بنت زيدان.

[4] أشار أيضا الى التعليم المبكر للمرأة البراكية د. فضل إبراهيم الأجواد – براك، الشاطئ – دراسة إقليمية – ط (1)  – سلسلة الدراسات الصحراوية – كلية الآداب، جامعة سبها.

مقالات ذات علاقة

امْوَاير ولد لجواد – ج 2

جمعة الفاخري

هل هلالك

المشرف العام

أمي في جنات نعيم

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق