المحاكمة
*** صاح بأعلى صوته (الحاج عاشور) وكعادته على مر السنوات بكلمته التقليدية ما أن لمح القاضي والمستشارين يستعدون لدخول قاعة المحكمة.
“محكمة”
غير متناس ِطريقة إلقائها بتلك النغمة الموسيقية ..والتي لولا قدسية المكان لأنفجر الكل ضاحكا عند سماعه يرددها.
..كانت تلك الجلسة تدور حول القضية رقم (2222) قضيه (الحاج عمران) المغدور.
الأخوة (شداد – نادر – كامل – شاكر – إدريس)… داخل القضبان الحديدية والحراسة مشددة من حولهم..
.. (ادهم) جالس وسط حشد كبير من الحاضرين..وقد كان جالساً بقربه صديقه (حازم) ذلك المحامى اللامع والذي استطاع بنشاطه أن يعجل في تقديم الجناة إلى العدالة..وقد ساعده المحققون في الكشف عن فصول الجريمة.
صمت الجميع وراقب بشغف مايحدث في تلك الدقائق..الكل ساكن فيما عدا الأخوة الشباب فلقد أتضح جليا عدم الاتفاق والتفاهم فيما بينهم..لقد دب الخلاف بينهم في جنبات المحكمة.
تمكن (حازم) بمساعدة المحققين من إلقاء القبض عليهم كل على حدة..وعند التحقيق لم يتم جمعهم ببعض..لقد تم عزلهم وإبعادهم عن بعضهم البعض…وبذلك تم انتزاع الاعتراف بخداعهم وإلصاق التهمة بأحدهم وإقناعه أن أخوته هم الذين اعترفوا عليه بذلك.
تكررت هذه الطريقة مع كل الأخوة..الكل ينهار ويعترف على (شداد) كونه صاحب فكرة الجريمة وهو العقل المدبر فيها.. إذن القاتل (شداد) … وأخوته قد شاركوا في ارتكابها ولو حتى بالضرب والتستر…وبعد مواجهة القاتل (شداد) بالحقيقة اعترف صراحة بالجريمة وبكل بساطه,بل زاد على ذلك بافتخاره بنفسه أمام القاضي..وتعدى ذلك باعترافه بأنه تسبب في انتحار شخص بداية استلامه عمله الجديد..فور قدومه من بلاد الغربة والتي بُعث ليدرس ويكمل تعليمه بها..ومنها تحصل على درجة الدكتوراه في علم النفس..
تفاجأ الكل بإدلائه بهذه الاعترافات…وتعالت صيحات الاستهجان ، ثم خيم الصمت من جديد في قاعة المحكمة..واستمعوا إلى اعترافاته بإصغاء وهدوء شديدين..
” لقد بدأت القصة سيدي القاضي..حين وقع نظري على فتاة احلامى..كانت فتاة جميلة..ساحرة ..فاتنة..كانت طالبة تدرس في إحدى القاعات التي ألقى فيها بعضا من محاضراتي..حاولت التعرف عليها ولكنها أ؟بت ورفضتني..كررتُ المحاولة..فكررت الرفض..دون أن تبدى الأسباب..”
(ترفضني أنا شداد)
صرخة أطلقها (شداد) في القاعة..وأضاف بصوته العادي:
“هذا مالم ولن أغفره لها ابدأ..
فكرت قليلاً ًووجدت الحل..لقد ابتكرت أنا الدكتور (شداد) طريقة الإنجاح الاختياري..وأطلق ضحكات هستيرية داخل قاعة المحكمة..أجل إنها طريقة جديدة ومبتكرة..في كيفية وضع ؟أسئلة الامتحانات والتي تجعلني أتحكم فيمن سوف ينجح بإجاباته وبين الذي أردت ترسيبه دون أن ينتبه أحد.”.. طريقتي كانت فلسفية ومبتكرة…وأطلق موجة من الضحكات الجنونية..ثم أكمل حديثه
تقدم الطلبة للامتحان..ونجحوا جميعهم..فيما عدا تلك الطالبة..وبعض ممن استحقوا فعلاً الرسوب.
رسبت الفتاة فعلاً في المقرر العلمي,تفاجأ الجميع واحتجت الفتاة الراسبة ولكنني أريتها وريقات إجاباتها والتي كانت بخط يدها..فاقتنعت بائسة واستسلمت للأمر الواقع.
..تكرر نفس الشيء معها في السنة الدراسية الجامعية التالية.. وأيضا التي تليها إلى أن يئست الفتاة ، وتغيرت معنوياتها وملامحها.. وأصبحت إنسانة ضعيفة هزيلة ومريضة نفسياً..
.. وفى يوم من الأيام..وصلني خبر انتحارها..لقد وضعت حداً لاستمرار حياتها بتجرعها لكمية من السم القاتل.. أجل سيدي القاضي أجل سيادة المستشارين الأفاضل..نعم أخوتي الحضور الكريم؛ لقد تسببت فى انتحار تلك الفتاة..أنا القاتل أنا الذي لم يشك فيه أحد في كلتا الجريمتين.. لقد نفذت جرائمي بدقة وإتقان.. أنا من نفذ الجرائم الكاملة…”
… وأطلق سلسلة من الضحكات الجنونية وبصوت عالِ داخل قاعة المحكمة.. مما أدى إلى استهجان وغضب كل من كان في قاعة المحكمة.
.. نظر الحضور إليه فأيقنوا أن هذا (الشداد) صار مجنوناً.. أو أنه يصطنع الجنون ؛ خوفاً ًوهرباً من العقاب.
.. التفت القاضي يمينا وشمالا بين مستشاريه..
– وقال: “ترفع الجلسة للمداولة”
…أطلق الشيخ عاشور صرخته المعتادة من جديد:
” محكــــــــــمة”
صخب وهرج كبيرين في القاعة.
حزن عميق في عيون (ادهم) .. وأطلق من دون وعى كلمات لم يفهمها أحد:
“أنا أتنازل عن القضية..أنا أتنازل عن حقي”
…التفت إليه الجميع باستغراب..واعتقدوا أنه قد جُن..
..كان (الشيخ عمران) هو من نطق هذه الكلمات في تلك اللحظة وليس (ادهم)..
.. لقد نطق هذه الكلمات بعاطفة الأبوة الخالصة.. ولم يفهمه أحد حينها.وكان ذلك من حسن حظه..
.. صرخ (الشيخ عاشور) بأعلى صوته من جديد:
“محكـــــــــمه”
– القاضي:
بالنظر إلى القضية رقم (2222) حكمت المحكمة على المتهم الرئيسي (شداد عمران) بالإعدام.. وتحال أوراقه لفضيلة المفتى.
الآخرون: (كامل ، نادر ، شاكر عمران) بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة.
.. صدر هذا الحكم بتاريخ 1 / 2 / 6543
فجأة صرخ (ادهم):
“الحرية تبدأ عندما تنتهي الحرية.. لأن الحرية تنتهي عندما تبدأ الحرية …”
التفت إليه الجميع وتسألوا في داخل أنفسهم..
بماذا يهذى هذا المعتوه!؟
أكمل (ادهم) هذيانه المسموع .. لماذا لا تستبدلوا عقوبة الإعدام والسجن المؤبد بإطلاق المعاقبين في الطرقات بملابس ذات ألوان خاصة يكتب القضايا من على الأكتاف ويقيدون بسلاسل ثقيلة بدلاً من أن يسجنوا؟!
لماذا لا تستبدلوا قوانينكم المتكررة؟
تجاهله الجميع فجلس صامتاً.
أما (إدريس) فلم يصدر ضده أيَ أحكام لأنه كان نائماً في تلك الليلة المشئومة.
خرج (إدريس) من قاعة المحكمة مهموماً..حزيناً..وحاقداً على كافة البشر.. مودعاً أخوته.. مشفقاً عليهم ومتوعداً بأنه سينتقم شر انتقام من (القاضي) والقانون و (ادهم) وصديقه (حازم) وكل من تعاطف معهم.
..خرج (إدريس) من قاعة المحكمة والأفكار متزاحمة فى ذهنه.
… الآن فهمت لماذا كان أخوتي يقومون بشراء بقرة كل بضعة أشهر وفجأة يدعون بأنها ماتت ثم يقومون برمي جثتها في ذلك التل البعيد.
لقد كانوا يشترونها أصلاً لإخفاء الجثة إذا ويقومون بتسميمها ورمى الجيفة في تلك البقعة النائية.
***
يتبع الفصل الثامن والأخير