الفنان المعارض
عمر جهان فنان تشكيلي ليبي ، ولد في مصراته عام 1949، ترك ليبيا عام 1976 ، واختار مصر ليكمل دراستة العليا في الفلسفة وعلم الاجتماع، بعد أن نال درجة الليسانس في ذات التخصص من جامعة بنغازي عام 1973، في القاهرة بدا فعلا في الاعداد لكتابة بحث أطروحة الماجستير عن مفهوم الفن عند أبي حيان التوحيدي ولكنه تركها أيضا لينخرط في الفن التشكيلي ، وفي العمل المعارض ، ربما ليؤكد منذ ذلك الوقت البعيد ،على أنه لاشي يفصل بين الفن التشكيلي ،والعمل السياسي ،طالما الهدف صالح ليبيا التي حرمه منها القذافي ، بسحب جنسيته الليبية ، ولم يرجع لمصراته مسقط راسه الا بعد سقوط نظامه في 2011. بقى الفنان عمر جهان في القاهرة سبعة وتلاثين عاما ، كان وجوده فيها مؤثرا وداعما للفن التشكيلي المصري والعربي في العموم ففيها تمكن من أقامة عدة معارض ، والتي كان ينتقي أسماءها بشاعرية مذهلة، أهم هذه المعارض: السكون المشمس في عام 1983، والتحولات في عام 1987 وفي 1991 إشارات وشواهد ،ثم في 1992 قدم اهم محطاته الفنية على الاطلاق كهفيات الحبر والشمع ،وبعدها بسنتين، رسم مجموعة بورتريه الحجرة ،ثم في 1996 رسم مجموعه مهمة من الأقنعة على ورق مصقول عرضها في اتيلية القاهرة ، والتي يقول أنه رسمها متأثرا ببورخيس، وفي 1998 اقام معرضه لوبيات ، وأخر معارضه كان موتيفات عابرة في 2002 .
الفنان التشكيلي الليبي عمر جهان يعتبر أحد المؤسسين لمجموعة إضاءة 77 وهي رابطة أدبية وفنية ،أعضاؤها مجموعة من الشعراء والأدباء والفنانين التشكيليين، ثم أصبح مشرفا فنيا ومخرجا ومصمما للرسوم الداخلية لمجلة تحمل اسم المجموعة (إضاءة77)،والتي كانت تهتم بالشعر الحداثي ،أيضا الفنان عمر جهان كان مسئولا عن إصدارمطبوعة معارضة لنظام القذافي الديكتاتوري، كانت تصدرعن التحالف الوطني الليبي اسمها مجلة التحالف. كما ترأس مؤخرا وبعد عودته لليبيا اللجنة العليا المنظمة للمعرض العام للفنون التشكيلية الذي أستمر لمدة أسبوع وأقيم في قاعة مصراتة للمعارض في مارس 2014 بتنظيم ورعاية وزارة الثقافة والمجتمع المدني، وضم المعرض أكثر من سبعين لوحة فنية لمختلف المدارس ، رسمها فنانين ليبيين محترفون وهواة.
أنا عرفت الفنان جهان في منتصف التسعينات، من خلال بعض لوحاته فقط ، وتحديدا عبر متابعة قيمة كانت قد نشرتها عنه مجلة لا ، كما قرأت مرة رواية لصديقي محمد الأصفر يصف في أحد صفحاتها الفنان عمر جهان فكتب عنه يقول (جهان تشكيلي ليبي كبير يعيش فى القاهرة منذ منتصف السبعينيات .. إنسان طيب ومتواضع .. يعيش على الكفاف .. لا يدخن ولا يسكر ، يرسم أغلفة الكتب فقط .. ويشرب الشاي مع البسكوت المملح) ، وفي أحد أيام أبريل 2007 كنت أتحدث مع الدكتور خالد القايد عن رسومات الفنان التشكيلي عمر جهان دون أن أعرف أنه صهره ، بعدها بسنوات التقينا صدفه انا و عمر في فضاء الفيسبوك طلبت صداقته وافق على الفور ليمنحني بذلك رخصة قيمة ومهمة لمشاهدة بعض ما يرسم ، وكان ان شدتني هذه اللوحة التي وضعها على صفحته الرئيسية . وسميتها اللوحة الرمادية
اللوحة الرمادية
رسم عمر جهان هذه اللوحة كما في الصورة ،وهي نصف علوي لشجرة مثمرة ، متكئة على خلفية رمادية هافتة مشوبة بنقاط ضوء ابيض ناصع، وأصفر جميل يوحي بالبهجة والامل ، وسط الرمادى القريب من الدخان الأسود الموحى بالألم ، لترمز اللوحة للحالة التي يعيشها الوطن، من ضبابية ،فيما تتشبت الكرات البيضاء والصفراء لرفض هذا الرمادي والخروج منه .هكذا قرات اللوحة، قبل أن أكتب عنها وسالته بشكل مباشر عبر ماسنجر الفيس بوك : أستاذ عمرهل رسمت هذه اللوحة قبل احداث المطار أم بعدها ؟ في إشارة مني لما حدث مؤخرا من حرب على مشارف المطار وحرق لخزانات النفط جعلت طرابلس العاصمة تغرق في الدخان !!! ونأخر في الرد ،ولكنه أجاب هادئا ،وبنبرة حزن كتب يقول (… بعد المطار، قبل المطار ،متزامنة مع المطار، المهم ان يخرج الليبيون من هذا الخواء المنهار!!) هكذا هو عمر جهان مثله مثل أي فنان يرسم لهدف ، ومن أجل قضية ، والرسم عنده رساله ، وعمر همه ان تخرج ليبيا مما فيه ، لوضع افضل فلا اعتبار للزمان ولا المكان وانما الرسم، وفي هذه اللوحة على اقل تقدير، تريدنا أن نخرج من هذا الخواء المنهار على حد قول من رسمها .
للوهلة الأولى تفضح اللوحة الحالة النفسية لعمر جهان الفنان ،وتعكس قلقه على واقع الوطن وهو يرسمها ، فتبدو القطع المتناثرة المكدسة في النصف العلوي للوحة على هيئة أوراق ، كأنها تحمل بين طياتها ظلّاً ثقيلاً موزعا كيفما اتفق، وتنمّ عن فوضى مُرْغمة تحتلّ الجزء الأعلى من اللوحة، فيما يحتل غصن الشجرة البائس جزئها الأسفل والأكثر سوادا لكنه يملك جاذبيّة الانتماء والبحث عن أمل تستمده لتينع ، ويولد من ساقها فرع جديد يقترب في أن يلامس بخجل الثمار التي تنحني للمولد وتتهيأ لقبوله وربما لاحتضانه حتى يكبر ، فيما نصفها السفلي الذي يبدو وسط السواد ونراه ناقصا في اللوحة ولكنه موجود ويتحمل ويحمل الشجرة كلها بما فيها .
السكون المطبق والظلمة الخافتة يخيّمان على خلفية اللوحة. الالوان الباردة والداكنة لساق الشجرة الكبيرة واوراقها تشي بالبساطة الشديدة. فبين الضوء الساطع بالأبيض والاصفر ، مع الظلام الخافت في رمادية شهباء قسمت الحالة الى شطرين ، شطرا قد غاب في الظلام ، وشطرا شهد النور مع الموت الحاضر على شكل لون أحمر قاني لا يكاد يبين ولكنه يفرض وجوده ولايمكن تجاهله ،وهو ينساب من اعلى الشجرة وحوافها قاصدا التراب ، الذي لا يظهر في اللوحة ، لكنه أصل الأشياء جميعا كما قال أحد الفلاسفة ، اختفى أصل الشجرة في اللوحة لكنه حاضرا كأمل بالخلاص يضوع من عناقيد الثمار بالأصفر والأبيض التي تتغدى من الأصل . ومرة أخرى رمزية هذه اللوحة تعكس وتعبرعن الحالة الانفعالية أو المعاناة أن صحت المفردة لرسام حلم بوطن، واستفاق ليجده واقع معاش، لكنه لا يرتقي ولايوافق ما كان يصبو اليه . أتمنى أن يختفي الرمادي من لوحات الأستاذ الفنان عمر جهان في وقت قريب ،ويحل مكانه زهيرات وورود وشجيرات بلون النماء والحياة ، لأننا وبكل تأكيد سنخرج من هذا الدخان والرماد ونتنفس الصعداء ، ونعيش في الوطن الذي حلمت به ،ونشاركك حلمك الجميل يا عزيزي جهان .