متابعات

حديث الذكريات

وسط أجواء رمضانية حميمية وأخوية ألقى الأستاذ مختار دريرة محاضرة عند الساعة الحادية عشر مساءَ من يوم الثلاثاء الموافق للحادي عشر من رمضان ببيت نويجي بالمدينة القديمة وحضرها لفيف من المهتمين والمتيمين بالمدينة القديمة، المحاضرة التي كانت بعنوان ” مبدعون من مدينة طرابلس القديمة ” سلَّط فيها الباحث الضوء على الشخصيات المبدعة التي ولدت أو ترعرعت داخل أسوار المدينة القديمة في إحدى جهاتها وتقسيماتها الكثيرة.

أمسية مبدعون من مدينة طرابلس.
في الصورة: الأستاذ رضا بن موسى يقدم اللأستاذ مختار دريرة.

البداية كانت مع الأستاذ رضا بن موسى الذي استلم إدارة الأمسية الثقافية الرمضانية والذي استهل إلقاءه بقراءة السيرة الذاتية للأستاذ المُحاضر مختار دريرة المولود في المدينة القديمة عام 1949 م والمتحصل على شهادات الابتدائية والإعدادية والثانوية بطرابلس قبل أن يتحصل على لسانس آداب قسم تاريخ من جامعة طرابلس العام 1977 ويُجيد اللغات الإنجليزية والإيطالية إلى جانب إلمامه بالفرنسية والألمانية، وعمِلّ في وزارة الخارجية داخل وخارج ليبيا ما بين عامي 1978 – 2014، وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات المحلية والعالمية، هذا بالإضافة إلى عمله كمستشار للدراسات التاريخية والأثرية حيثُ أشرف على صيانة وترميم عدة مواقع أثرية وتاريخية داخل المدينة القديمة، وهو صاحب فكرة ومُقترح إنشاء دار الثابت الأنصاري للوثائق التاريخية وله العديد من الأنشطة الأخرى مثل كتابة المقالات ونشر الأخبار والمتابعات الصحفية ونشر في الصحافة الليبية، وتقلده لعدة مناصب أخرى وعمله بعدة شركات ومصالح أخرى في السابق كما أن له تجربة عريضة مع التشكيل والرسم.

بعد هذا التقديم الوافي استلم الأستاذ مختار دريرة دفة الحديث ليدعو الحاضرين إلى الوقوف وقراءة الفاتحة على روح فقيد الوطن الشاعر محمد الفقيه صالح الذي وافته المنية قبل أيام في اسبانيا، ثم ليفتتح إلقاءه أو بالأحرى حديث السمر وفقط بصوته الدافئ ودون الاستعانة بمكبر الصوت لأنه غير متوفر من الأصل، بتناول سيرة الشاعر الراحل محمد الفقيه صالح الذي ولد بالمدينة القديمة عام 1953 وتلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي بها وعمل مع والده كحرفي بسوق القزدارة أو النحاسين كما يُعرف، وتحصّل لاحقاً على بكالوريوس علوم سياسية واشتغل بوزارة الخارجية قبل أن يُعتقل من قِبل نظام القذافي لعشر سنوات، وبدأ كتابة الشعر منتصف سبعينيات القرن الماضي ولديه عدة دواوين من بينها ” خطوط داخلية في لوحة الطلوع ” ويكتب الشعر وفقا لمدرسة الحداثة أو قصيدة النثر تحديدا دون التفلت كليا من أسر الإيقاع والوزن.

ثم تحدث الباحث عن علاقة المكان بالعبقرية أو الإبداع، حيثُ أشارَ إلى منطقة باب البحر التي عاش فيها ثلة من المبدعين أمثال خليفة التليسي والتشكيلي علي قانا وعبدالله كريستة والموسيقيين عامر القاضي وجميل القاضي والباحث الصيد أبو ديب، وألمح أيضا إلى من سكن زنقة سيدي سالم من المبدعين أمثال الشيخ على منكوسة والرسام محمد البارودي والفنان اسماعيل العجيلي والكاتب أحمد ابراهيم الفقيه والمحامي عامر الدغيس و الشاعر علي الحاراتي والخزاف علي القلالي وغيرهم من المبدعين في الموسيقى والآداب وعلوم الدين، وبالقرب من هذه المنطقة التي ضمت كل هؤلاء الذين أثروا الحياة الفنية والثقافية وُضِعَ كتاب ” عشر سنوات في بلاط طرابلس ” للمسز توللي وفيه كتبت كما لم يكتب أحداً من قبل عن طرابلس، والكتاب حتى اليوم يُعد وثيقة تاريخية مهمة ويُشكِّل مرجعية للكثير من الأحداث ومظاهر الحياة في هذه المدينة.

أمسية مبدعون من مدينة طرابلس.

أنتقل الباحث بعد ذلك لإضاءة أو لسرد سيرة الفنان الراحل أحمد الحريري صاحب الحضور اللطيف والأريحية بخلاف والده ذو الشخصية الرصينة بحسب الباحث، وبيَّنّ أنه ولد سنة 1943 وعاش في زنقة شايب العين وتأثر بالعديد من الشخصيات المبدعة التي عاصرها وجاورها مثل قارئ القرآن أنور الحاراتي وعائلة العزابي التي اشتهرت بصناعة الحصائر بألوانها الزاهية وعائلة من مدينة تاورغاء عُرِفت بصناعة أطباق السعف، وتطرقّ الباحث في سياق حديثة، إلى هذه العائلات فقط ليوضح الأجواء الإبداعية التي عايشها الفنان الراحل، كما لو أنه أراد القول أن على الراحل أن يكون فناناً أو ما شابه طالما أنهُ عاش في أجواء جميلة ومُلهمة كهذه وأنّ لا حُجة لهُ حتى لا يبدع هو الآخر كما أبدع الذين من قبله.

أستمر الباحث في حديثه فعرفنا منه أن الحريري زاول عدة مهن مثل صناعة وبيع الفرامل قبل أن ينضم للمجموعة الصوتية بالإذاعة وقبل أن ينشر نتاجه الأدبي في الصحف المحلية ويُعد ويُقدم الكثير من الأعمال للإذاعتين المرئية والمسموعة ويؤلف عدة كتب ودواوين شعرية.

القاص خليفة التكبالي هو ثاني الشخصيات التي استحضرها الباحث مختار دريرة، حيثُ سكن القاص خليفة التكبالي في زنقة الرحال مع عائلته وفي ذات البيت الذي سكن فيه الموسيقار علي ماهر، وهو كما يذكر الباحث صاحب شخصية جادة وكان يقرأ كثيرا في شط الترسانة بالقرب من مصرف ليبيا المركزي الآن وتلقى تعليم القرآن في كُتاب جامع النخلي وتخرج من الكلية الفنية القسم التجاري وزاول عدة مهن يدوية وعمل بمحطة بنزين ثم التحق بالشرطة ثم هاجر إلى المانيا أين اكتسب صفة الجدية التي عُرف بها الألمان – بحسب الباحث – ثم التحق بكلية الضباط وتخرج كملازم ثاني، بدأ الكتابة عام 1958 وتوفي سنة 1966 وله من الكتب ” العزلة تتسع ” و ” تمرد ” و ” غربة ” والأعمال الكاملة ” كما تحدث الباحث عن مراسلاته مع بعض الأدباء الليبيين والتي عُرِضت بعد وفاته بأحد المعارض بإشراف من الأديب علي مصطفى المصراتي.

ثم استعرض المُحاضر شخصية فؤاد الكعبازي متعدد المواهب والمبدع في عديد المجالات وكان لا بد من أن يشير إلى تاريخ ميلاده الذي كان في العام 1920 بكوشة الصفار وينوه إلى أنهُ يُجيد إلى جانب اللغة العربية والتركية، الإسبانية والإيطالية والإنجليزية ونشر نتاجه الأدبي في الكثير من الصحف الصادرة في ليبيا آنذاك مثل الفجر لمحمد فريد سيالة والمعرفة والأحكام وشارك في المؤتمرات مثل المؤتمر الذي أشرفت على تنظيمه منظمة اليونسكو ومؤتمر المواصلات وآخر متعلق بالبترول ومارس الرسم والتصوير الفوتوغرافي والفن الساخر وكتب باللغة الإيطالية ومُنِحَ دكتوراه فخرية في إيطاليا وعمِلَ كوكيل لوزارة المواصلات وله عديد المؤلفات مثل ” مختارات من الشعر العالمي ” و ترجم القرآن الكريم وتقلد منصب وزير البترول وصُدِّرت أول شحنة بترول في عهده وتبرع بمكتبته للصالح العام وعمِلَ كسفير لليبيا في الفاتيكان، وحكى الباحث في هذا الصدد عنه هذه الطرفة أو الحادثة التي تدل على سعة علمه وفصاحته، إذ أنه الشخص الوحيد الذي اخترق البروتوكول المتعارف عليه بين الدول عند قبول أوراق اعتماد السفراء، فهو السفير الوحيد تقريبا الذي تجاوز المدة الممنوحة له لتسليم أوراقه لبابا الفاتيكان الذي يبدو أن الكعبازي قد فتنه بحديثه وبلغته الإيطالية الصافية التي يجيدها تماما، وعندما طلب منه المشرفون على مراسم التسليم المغادرة بعد الأنتهاء من العملية أشار لهم البابا بأن يتركوه ويبقوه لفترة أطول ولا يجعلونه يغادر كما هو معتاد في مثل هذه الحالات ليبقى مع البابا لمدة ساعتين قضاهما في الحديث إليه، وفي كل المحاضرة لم يغفل الباحث عن تطعيم سرده بمثل هذه الطرفة والحكايات الطفيفة ليتأكد لنا بأن المحاضرة وإن كانت محاضرة في ظاهرها تحمل الصفة العلمية إلا أنها لم تكن في واقع الأمر سوى حديث لنبش الذكريات واستحضار الماضي الجميل بكل ألقه وسطوعه في الروح.

أمسية مبدعون من مدينة طرابلس.

رابع الشخصيات هو الروائي والكاتب والصحفي ومحرر المرأة كما أوضح الباحث مختار دريرة، هو محمد فريد سيالة الذي ولد العام 1927 واشتغل بالتدريس وكتب أول رواية ليبية وترأس هيئة تحرير صحيفة الفجر ويجيد الإيطالية والإنجليزية وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات وكتب بأسماء مستعارة في مواضيع حساسة تهم المجتمع الليبي حينها كما ترأس تحرير صحف لواء الحرية وصوت المربي ولديه من المؤلفات ” نحو غدٍ مشرق ” و “اعترافات إنسان ” وهو كما نوهنا عنوان الرواية الليبية الأولى والتي أُعيد طبعها مؤخرا من قبل مجلة الدوحة القطرية، وهو من مواليد مدينة طرابلس القديمة بطبيعة الحال.

كثيرة هي الشخصيات المبدعة التي سكنت طرابلس القديمة وترعرعت بها وعاشت في أزقتها وحواريها واغتنت بأجوائها وتأثرت بالمتفوقين من أبناءها في كافة مجالات الفن والأدب والعلم حاول الباحث في هذه المحاضرة التي اتخذت شكل اللقاء الحميمي واجتماع الاصدقاء ولمة الأحباب، حاول لملمة خيوط حياتها المتبعثرة وتلك التي طواها النسيان ونفض عن تفاصيلها غبار الإهمال والسهو ليقدمها للمتلقي، كما اتصور بهدف الاستفادة من زخم تجاربها الإبداعية والحفاظ عليها باعتبارها جزء من تاريخ طرابلس إن لم تكن جزءاً من تاريخ ليبيا وحتى تُتخذ كقدوة لمن أراد تحقيق النجاح والتفوق، إذ من لا شيء تقريبا وفي غياب أية إمكانيات برز هؤلاء وتفوقوا وأبدعوا فقط لأنه لم يكن ينقصهم الإصرار والعزيمة والموهبة وروح المجازفة وحب المغامرة.

كثيرة هي الشخصيات الذي استعرضها الباحث الذي لم ينقصه هو الآخر الشغف والحب كما يبدو عند اشتغاله على لملمة تفاصيل حياتها وتتبع أسباب نجاحها، أستعرض علينا في محاضرته القيمة التي طعمها بالعديد من الطرائف والنكات والنوادر حتى بدت المحاضرة أقرب إلى أجواء السمر كما أسلفنا وتجاذب أطراف الحديث منها إلى المحاضرة العلمية، وهذا ما جعل جمهور الحاضرين الذين لم يبخلوا بتعليقاتهم وملاحظاتهم المهمة التي أضافت إلى مادة المحاضرة العديد من المعلومات والإشارات وأثرت الجلسة وأكدت حميميتها جعله يتفاعل بحيوية وهذا ما يفسر انقضاء الوقت بسرعة دون ان نشعر به وكان لزاما أن تختتم المحاضرة مع ان الباحث لا زال لديه في جعبته الكثير من الشخصيات المبدعة ليعرض علينا تجاربها وسيرتها سواء كانوا من المبدعين المعروفين الذين نالوا قسطا من الشهرة أو ممن طواهم النسيان وهم كُثر.

إذ استعرض الأستاذ مختار دريرة كذلك وفي عجالة تقريبا شخصيات الشاعر والكاتب علي بشير الحاراتي والفقيه المتخصص في علوم القرآن محمد بن علي باباني الشهير بلقب سباكة، وفنان النقش على النحاس فوزي النعاس الذي سافرت أعماله إلى كل أنحاء العالم وتم اقتناءها من قبل الكثير من الأجانب الذين زاروا ليبيا وقام بهذه الطريقة بالتعريف بليبيا وبتراثها وبفنها، كما تطرق الباحث مختار دريرة إلى شخصية الخزاف محمد الهاشمي مصطفى الداقيز من سكان قوس المفتي وشخصية الشاعر الكبير أحمد قنابة والموسيقيّ ذائع الصيت بشير فهمي فحيمة صاحب الأغاني الجميلة والمؤلفات المتخصصة مثل “صحيح الأغاني” والذي أسهم في تأسيس معهد الراشدية المختص بالموسيقى في تونس أبان هجرته إليها وأنضم إلى جماعة تحت السور الشهيرة في الأدب التونسي رفقة شخصيات مؤثرة مثل علي الدوعاجي وغيره حيث لعبت هذه الجماعة دورا حيويا في الأدب التونسي المعاصر.

وتحدث لاحقا عن عازف العود والكمان حسونة فحيمة وعازف الرق والطار والطبل عبدالسلام مصطفى سركز المشهور بلقب “كعاوص” وعلي القلالي فنان الخزف المبدع وغيرهم وفي كل ما أستعرض الباحث أراد التأكيد على حقيقة أن مدينة طرابلس العتيقة كانت زاخرة بالمبدعين في كافة المجالات ولم تخلو يوما من المتفوقين، ذلك أن لها من طيبة أهلها وحميميتهم ومن معمارها وجمالها الفتان وتاريخها وتراثها ما يجعل المرء يصبح مبدعا دون أن يعي، وهذه المحاضرة في تصوري المتواضع تحية إلى طرابلس أو هكذا أتخيلها واحتفاء بها، طرابلس التي تعاقب عليها الغزاة وحكمها الفينيقيين والقرطاجيون والرومان والوندال والبيزنطيون والنورمانديون والإسبان وفرسان مالطا وفتحها المسلمون واحتلها العثمانيون والإيطاليين وأدارها الإنجليز حتى الاستقلال وحكم القذافي وحتى ثورة 17 فبراير مدينة بهذا الحجم وبهذا الحضور التاريخي تستحق أن يُحتفى بها وفي الاحتفاء بأبنائها احتفاء بها واعترافا بدورها التاريخي محليا وإقليميا، وتبقى ملاحظة أخيرة أشار إليها الباحث عابراً وهي أن مدينة طرابلس القديمة ضمت طوال تاريخها تقريبا جنبا إلى جنب داخل أسوارها وحواريها وأزقتها وساحاتها، الليبيين بمختلف أطيافهم والأمازيغ والمالطيين واليونانيين والإيطاليين واليهود وغيرهم من الملل والجنسيات الأخرى وتعايشت سلميا دون وجود أية مشاكل وفي انسجام تام قبل أن تتدخل السياسة والمصالح في تحطيم هذا الانسجام والتناغم الذي طالما عُرفت به طرابلس فإلى جانب المساجد وجدت معابد اليهود وكنائس المسيحيين دون تعارض ودون أن تلغي طائفة الطوائف الأخرى، ونحن اليوم في حاجة لاستعادة روح التسامح التي كانت سائدة.

المحاضرة التي أشرفت على تنظيمها الجمعية الليبية للآداب والفنون وتأتي في إطار خطتها لشهر رمضان المبارك بإحياء أمسيات ثقافية استقطبت جمهورا من عشاق المدينة القديمة ومحبيها، وقد أظهر هذا الحضور النخبوي اللافت ذو الزخم تفاعلا وأبدى انتباها للمحاضرة التي وكما اسلفنا ما كانت لتنتهي لولا أن الوقت داهمها وكان لا بد من إنهاءها، وكنوع من السلوى لأن المحاضرة لم تكتمل ولا يزال لدى الباحث الكثير ليقوله وليستعرضه اقترحوا عليه التوسع في هذا الموضوع وتأليف كتاب يضم كل هؤلاء المبدعين وغيرهم وحتى تتاح الفرصة لمن لم يستطيع الحضور لمعرفة مبدعي مدينة طرابلس القديمة الذين اكتشفنا نحن أيضا العديد من المغمورين منهم وممن لم يتم ذكرهم في السابق عند الحديث عن الإبداع والمبدعين الطرابلسيين.

وعلى أمل اللقاء يوم الثلاثاء القادم في ذات المكان والموعد لحضور اللقاء الذي سيتحدث من خلاله الفنان اسماعيل العجيلي عن تاريخ الإذاعة الليبية أخُتِتمَ النشاط.

مقالات ذات علاقة

محاضرة تكشف عن نقوش وآثار إسلامية بكنيسة سوسة البيزنطية

مهند سليمان

الشاعرة هناء المريض والشاعر عمر عبد الدائم يتألقان على منبر السعداوي

المشرف العام

توثيق ذاكرة ليبيا «فوتوغرافيًا» بمعرض في بني وليد

المشرف العام

اترك تعليق