قراءة تحاول رصد أثر النص الحديث (قصيدة النثر بشكل خاص) في التجربة الشعرية النسائية في ليبيا، من خلال قراءة عامة لهذا النتاج دون تخصيص مجموعة معينة، إنما الحركة من خلال النص وقراءته.
3.1/ النثر يطلق أصواتهن/ صدمة الشكل:
بكل اطمئنان نقول أن النثر كان أقدر على إطلاق أصواتهن، فلقد استطاعت (قصيدة النثر) أن تكون الصوت المنطلق في الشاعرات. ومقارنة بالشاعرات اللواتي مارسن النص التقليدي أو التفعيلي فإن النثر كان محرضاً للكثيرات لخوض تجربة الكتابة، تحت تأثير الحرية التي يرينها (شكلاً). هذا في الوقت الذي كانت فيه القصة أخذت نصيبها الوافر في إبداع المرأة. أو ما نسميها (صدمة الشكل) التي كونت حكماً مسبقاً بنـزعة هذا النص لرفض قوالب النص التقليدي21، وبالتالي فإنه يوفر مناخاً أكثر تحرراً لممارسة الإبداع، وهو دخول أول لا يعتمد الوعي بالتجربة وأبعادها، بقدر ما يعتمد ردة الفعل الأولى للشكل، مقدرين الاتجاه للحديث كجزء من ثورة المرحلة على القديم، أو رغبة الجيل الجديد بالدفع بكل ما يمثل ماضياً خلف ظهره، مشرعاً صدره للمواجهات راداً بقوة كل اتهامات الخيانة، والدعوة للتفرقة، والتغريب، والعمالة، وغيرها من الاتهامات التي رافقت قصيدة النثر، وكان من الطبيعي أن تنتقل إلى المناخ الثقافي في ليبيا (تأثراً)، وتمارس فعلها في الجيل الجديد، الذي سريعاً أعاد اكتشاف هذا النص وقدم نماذجه الخاصة بداية من ثمانينيات القرن الماضي، إذ تخلصت هذه النصوص من أثر (صدمة الشكل) أو ما يمكننا تعليله بالتعامل السطحي مع النص أو الشكل في النص الحديث (قصيدة النثر)، بحيث أخذت تتبلور تجارب قصيدة النـثر في نصوص الشعراء، ومن بينها تجارب الشاعرات فعرفت الثمانينيات أكثر من شاعرة، لتتأكد هذه التجربة في مجموعة النصف الثاني من عشرية الثمانـين.
نص النثر يعطي فرصة التورية، (يديدش) الكتابة في درجات الاعتراف الجريء والبوح (كما علقت أحد الكاتبات)، قصيد النثر أخذت دور الاسم المستعار، فهي _أي الشاعرة_ تقول كل ما تقول بإحساس أنها محمية، فلا عابر يستسهل فك الشفرة، بعيدة عن محاكمة رجل الشارع التقليدي _المفترض_ ونظرة المجتمع.
نص: إلى من يهمه الأمر/ الشاعرة: عواشة حقيق22:
أنا عمري تسع عشرة…/ يقولون كثيراً.. إنه عمر الزهور والأمل/ عمر تعطره الليالي بالقبل/ عمر يعيش ربيعه في عالم الأحلام/ عمر له من صدق إحساس النبي إلهام/ وأنا عذراء قومي/ تائهة أحيا ليومي/ لا ابتسامات ندية/ لا عيون مفعمات بالتحية/ لا أمل يشرق في أعماق ذاتي/ وفؤادي/ يرتجي الرحمن ملاكي أصليها صلاتي/ وأنا.. حسناء قومي/ يوم عرسي/ لم أجد ورداً أزين شعر رأســـي/ يا سنابل/ خبزنا ما زال علقم / وديار القدس بالأحزان تلهـم / وأنا.. في العمر طفلة/ لم أعد بعد سعيدة/ ولا ماتت أحاسيسي شهيدة.. وأعاتبه زماني/ من أورثني الحزن.. وما كنت حزينة/ شاعركم أبكم/ يخبئ زاداً في الجو رنينه/ عالمي ضاع/ فؤادي بالأسى مات حنينه/ فمن الحق الصبا، ومن الليل أنينه
أعترف بتدخلي في إعادة ترتيب النص، بنية كسر بنيته الإيقاعية، فالشاعرة لم تتخلص بعد من إرثها التقليدي، إنها وإن كتبت نصها خارج قواعد العروض _خاصة ما تفترضه الكتابة العَروضيّة للشعر الحر/التفعيلة_، فلن تـتخلص بعد من جرس الإيقاع (سمعياً) لتـعمل على إيجاد نمطٍ إيقاعي باعتماد خواتيم بذات الإيقاع (رنينه=أنينه=||0|0)/ (ندية=تحية=||0|0)، بمعنى إن الوقوع تحت تأثير الشكل (إبهاره) لم يتـفاعل باتجاه الدخل، فكان عليه الانتظار قليلاً حتى تتحقق له هذه النقلة، التي كانت في الثمانينيات.
في هذه المرحلة، استفاد النص مما وصلت إليه التجربة الشعرية العربية، فكان العمل أكثر على النص كونه الصوت، فتخلص النص من إرثه القديم، خاصة الإيقاع الظاهري، وتمثل النص العديد من الرموز والثيمات التي شكلتها المرحلة وفكرها وطروحاتها، وما قدمته الثقافة المتوفرة. وعلينا الاعتراف أن هذا الانتقال كان انتقالاً سريعاً، ويجوز توصيفه بالقفزة، وهو يحقق ما ذهبنا إليه في أكثر من موضع للأثر الكبير للتجربة الشعرية العربية (الشرق الأستاذ) التي مثلت الأستاذ للتجربة الشعرية في ليبـيا.
وكوننا هنا نهـتم بمسألة الشكل، نعود لنقول: إن الشكل خلص لتجربة النص الحديث (اتخذه)، فاعتمد النص على البناء العمودي (الاتجاه في خطٍ واحد) إلا ما ندر، ونتج عن هذا:
1- انتظام النص في فقرات (مرتبة في فقرات)، وهي إما مرقمة (أرقام/ رموز/ علامات) أو غير مرقمة، وهذه الفقرات تحدد هيكل النص واتجاهه. هذه الفقرات تختلف من حيث الطول. وهذا الشكل يوفر للشاعرة: راحة أكثر في التعامل مع النص، كذا إمكانية الالتفاف على الفكرة/الحالة، تقسيم النص لسهولة التعامل مع تفاصيل هذا النص.
2- انتظام النص في مقاطع أو فقراتٍ قصيرة، وهنا يتجه النص أكثر للتكثيف، وحشد اللغة بنية تجريده عن التفاصيل، وتوجيه التلقي مباشرة للصورة.
3- النصوص القصيرة، والمتكونة في مقطعٍ من عدة أسطر، وهي نصوص تقتـنص اللحظة/الحالة، وتنـتجها في صورة أكـثر تجريداً.
4- الومضة، أو النصوص القصيرة جداً، وهي تنحاز للتكثيف اللحظة، وتفعيل جزأها الصغير.
هذا البناء العمودي هو أكثر الأبنية الشعرية استخدماً في الشعرية العربية، كونه يحقق للشاعر موازاة الدفق واحتوائه بسهولة (توصف القصيدة العربية بالعمودية وهي شكل واضح لهذا البناء العمودي). والملاحظ في هذه النصوص اعتمادها الجملة القصيرة والمفردات كوحدات بناء داخلية للنص، فلم تعمل على إنتاج الجمل الطويلة أو الجمل المتتابعة، بقدر ما اتجهت إلى تقسيم اللحظة في مجموعة من الرّصدات (الجمل القصيرة)، وهي صورة تمكن الشاعرة بسهولة من القبض على لحظتها التي تريد، وهذا الفصل (كإجراء عرفت به قصيدة النثر) يعمل على إيجاد حالة من الاتساق بما يفترضه من وصل، وتتالي هاتين الحركتين يوجد ما عرفه “د.كما أبوديب” بـ(إيقاع النثر)23، كون عملية الكتابة تـتـعلق بالشاعر أو بنمطه أدائه الخاص، أوجدت هذه الثنائية نمطاً إيقاعياً خاصاً هو نظام سمـتي أبعد منه متغير عرفه الناقد “منصور العجالي” بـ(السّجع البصري)24.
نص: والسكاكين أنت لحدّها يا خليل/ الشاعرة: فوزية شلابي25:
يشتهي النخل قامة خليل/ وتمشي إلى ذراعيه/ قوافل الوجد/ وللأشرعة في أتساع صمته/ اندلاع الطرقات في الوعر/ إذ تكتم المسافات/ حيث تكون المسافات/ مناجاة لوقت يتسلق العمر/ وللسكاكين في أرشيف جلده/ دورات الطواحين/ تخلع على الندى الحجر/ فينهض في حمى دمه الرمل/ يتقصى فضاءات خليل/ العاشق/ في عتبة الليل تسري/ ومن هنيهات الغد تدنو.
ولو تتبعنا بعض تفاصيل النص لوقفنا على ما أبديناه من ملاحظات، فمثلا قامت الشاعرة على قطع جملة (وتمشي إلى ذراعيه قوافل الوجد) في سطرين مستفيدة من انقطاع النفس في الياء الساكنة في (ذراعيه) وكذا فيما بعدها. كما إنها تستفيد من خاصية القطع في (فينهض في حمى دمه/ الرملُ/ يتقصى فضاءات خليل) لبيان دلالة (الرمل) كوصل قلـبي (مدرك داخلي).
في مرحلة لاحقة، عندما تأكدت التجربة في النص والشاعرة، خاصة عشرية التسعينيات، عملت الشاعرة على تطوير أدواتها سواء باتجاه النص وذاتها، فلاحظنا عودة النص العمودي والشعر الحر (التفعيلة) في مجموعة من الأسماء (نذكر منهم: عفاف عبدالمحسن، أرياف العذاب) لكن ما نلاحظه أن هذه النصوص اكتفت بالعمل على مجموعة من البحور الخفيفة (كـ: الكامل، الرجز ومجزوئه، المتدارك)، كما لاحظنا انتصار البنيوية للغة في النص، فكانت اللغة الفائز الأكبر في هذه العشرية، ويظهر هذا بشكلٍ واضح في أعمال الشاعرات (حواء القمودي، مريم سلامة) ناحية العمل على الحشد اللغوي في النص، موجدتان بذلك زخماً دالاً أو معادلاً للحالة، إذ تعملان على إثارة ردة فعل التلقي اتجاه ما يريده النص، بذا فإن النص يجتمع في بؤرة تتمركز في مقاطع النص، منطلقة في شكل نبضات متتابعة، ونلاحظ أن هاتين الشاعرتين تكتبان نصهما بكلٍ منسرح، في نصوص طويلة تستجيب للنفس الشعري المتدفق، وتتوقف المقاطع عند الحاجة للشهيق. في جهة ثانية يعمل المشهد على التوازي مع الحالة، إذ يأخذ النص واجب الرصد في تكثيف النص في مجموعة من الصور والإحالات الدلالية، وهو مبحث يحتاج جهداً لإعادة قراءة المنتج الشعري.
نص: متعباً يسير النهار/ الشاعرة: خلود الفلاح26:
وحشة| مرهقة هذا المساء بعبث طفولي./ أوقفت عقارب الساعة في رغبة أن تتناساني
انفلات| وأنا صغيرة ضيعت دميتي الوحيدة .. مذ ذاك الزمن البعيد/ وأشيائي القريبة الجميلة تتسرب تباعاً
ترقب| في الضيق سيار الوقت قلبي التعب تلعثم سياقه/ لمطر يذرف بشدة على سقف الغرفة فابتهل إليك الدعاء
مجرد محاولة| الزمن سيد النسيان/ هكذا يقال/ لكن تفاصيل الأمس فاجأتني
حفل| أيزهر الندى احتفاءً بميلاد الغياب؟
يقرر العلامة “الجـاحـظ” إن الشعر صنعة، ولا نكران، فالصنعة في الشعر توجه النص ناحية التجويد بالبحث فيه، والذي أسميه الإخلاص27، وأعني الإخلاص للتجربة الذي طور من أدوات الشاعر ونصه مدفوعاً بإيمـانه، ليكون النص صوته. في التسعينيات بدأت معالم قصيدة النثر تأخذ شكلها المكتمل أو النهائي كنصٍ إبداعي لا يعترف بالنظام الشعري التقليدي، متخذاً من صفة (النـثر) منهجاً يعمل فيه على إيجاد وحداته النظامية بالتواطؤ مع الشاعر. وهو ما حقق للشاعر خصوصيته النصية أو استقلاله بالنص كشكل، إذ أوجد الشاعر نظامه/شكله النـَّصي الخاص فاستقل به (أو صوته كما علقت الشاعرة: حواء القمودي).
نص: السـؤال/ الشاعرة: أسماء الطرابلسي28:
لماذا..؟/ ترك الأمام وراءه،/ وتلفت يبحث عنه؟/ فاسحاً للسؤال الطريق/ حائراً../ لا يغفو أبداً، ولا يستفيق/ يتـفيأ ظل الغياب/ ويرقب في الأفق الجواب..
كأنما يفر من نفسه/ ومن ذاته، وظله/ حتى نسى صوته، وقلمه ولونه/ يغيب حاضراً، ويحضر غائباً
ثم يخرج/ باحثاً عنه../ علّه يجد ما لن يجده..!!
الوقت بلا توقيت/ اليوم يمضي دون أن يمضي/ ورمل الساعة ينزلق حبة، حبّة/ في بطء مقيت..
لا شاطئ لحيرته، ولا أصداف/ لا أفق لظنونه، ولا ألوان/ لا يقين لأوهامه/ وأيضاً..!!/ لا حقيقة
3.2/ النـثر يكشفـهـن:
إن كانت قصيدة النثر قد قطعت صلتها بالنظام القديم للشعر، إلا أنها عقدت اتـفاقـاً وثيقاً بالنظام المعرفي للشاعر. فقصيدة النثر وهي تتخلص من نظامها العام، تتـجه لنظامٍ أكثر خصوصية، وأكثر انغلاقاً على التجربة الشعرية، بالتالي فإنها تستثمر الرصيد المعرفي للشاعر، وتعمل على إعادة إنتاجه في النص، بالتالي يتأكد الزعم بأن قصيدة النثر نصٌ معرفي، في قراءة أخرى لتنظيرات البنيوية في انغلاق النص على منظومته المعرفية.
وقبل المضي، أتوقف لأقول، إن مبدأ هذه القراءة العامة لتجربة الشاعرات هي الاعتماد على مجموعة من الملاحظات المسجلة على هامش قراءة متـنـهن الشعري، وعليه فإن مسألة (النثر يكشفهن) مسألة مربكة، ويكمن إرباكها في النتيجة التي تضمنها دفتر الملاحظات، والقائلة: (لا يمكن العثور على مرجعيات أو آثار واضحة لأثر تجارب شعرية عربية في النص الشعري النسوي في ليبيا، إلا من بعض الرموز أو انعكاسات لمظاهر ثورية)، وسأحاول إنتاج هذه الملاحظة في نقاط:
1- إن القارئ للمتن الشعري النسوي في ليبيا سوف يكتشف أن هذا المتـن ظل حبيس رؤيته الرومانسية، التي غلبت على خطابه وبالتالي لغته التي احتشد قاموسها بالمفردات العاطفية، الراصدة لمجموعة من الانعكاسات الشعورية الحسية القلبية البعيدة عن رصد الحس المادي المتحقق في وجود الطرف المكمل، وهي رؤية فرضها الواقع الاجتماعي والعرف الذي حرمها من التواصل بشكلٍ فعال مع التجارب الشعرية العربية، إلا ما قدمته المناهج أو ما التقط في أشكال التواصل البسيط، وإن كنا لا ننكر بعض الاستـثناءات التي لم تظهر فاعلية كبرى. فاكتفت الشاعرة بالتعبـير، من خلال قاموسها المحدود.
كما يكتشف القارئ لهذا المتن انحصار دائرته في ذات الشاعرة، وانغلاقه عليها، إنه عالم الشاعرة هو عالم النص وأفقه، والشاعرة تقرأ الواقع في ذاتها في انعكاسه عليها/فيها، هذا الانغلاق يؤكده انعزال الشاعرة (كامرأة) عن واقعها وتأكيد انقطاع اتصالها الثقافي، الذي وجّه الشاعرة لاستثمار خزينها المعرفي حده الأقصى.
2- هذه المحدوديَّة المعرفية (عبرت عنها إحدى الشاعرات لاحقاً، بقولها: نحن لا نقرأ)، ظهرت كاختلاف ميز الشاعرات في متن الشعرية الليبية، كنص مستقلٍ في مرجعيته، وكأنه نص بعيد عن واقع تجربة قصيدة النثر في ليبيا التي تأثرت بالتجربة الشعرية العربية (الشرق الأستاذ). أما الأثر الموجود فهو تأثر داخلي بما أنتجتـه التجربة محلياً (تابع). يكشف هذا المتـن عن صدىً واضح لما تم هضمه في التجربة المحلية، في:
– التعاطي المباشر مع الرموز والدلالات المستوردة (المعاد إنتاجها في النص).
– محدودية أشكال التعاطي مع النص (تركيب الجملة الشعرية/ اللغة/ الصور)، الذي أعطى النص النسوي شكله البسيط السهل.
3- لقلة الأصوات الشعرية النسوية المطروحة، فإنه من السهل العمل عليها، وكما تبدو الصعوبة واضحة لأن الأصوات البارزة عبرت الوقت بسرعة ونعني تجربة الشاعرتين: فوزية شلابي، عائشة المغربي، وفي مرحلة لاحقة: فاطمة محمود، وخديجة الصادق.
4- ولو عولنا على عامل الزّمن (بالحركة في اتجاه الأمام)، سنجد أن الشاعرات (كمجموعات) تواصلن أكثر مع التراث العربي خاصة التعويل على اللغة _الاهتمام_ كما في تجربة الشاعرة “أسماء الطرابلسي”، ومع دخول القرن الماضي عشريته الأخيرة _بداية من نصف الثمانينيات الثاني_، بدأ النص يكون تواصله المعرفي الخاص والمستقل عن النص العربي، ويمكننا قراءة الشاعرات: عائشة بازامة، أم العز الفارسي، زاهية محمد علي، تهاني دربي، حواء القمودي أنيسة التائب، كريمة بن حسين، مديحة النعاس، فاطمة الورفلي، مريم سلامة.
5- لذا فإن هذا النص انشغل أكثر بالذات (أو ما أسميه نص الإسرار)، والاستفادة القصوى من المعرفة الشخصية في حدود المشاهد والملتقط، وهو ما نلمسه عند الشاعرات: جنينة السوكني، سعاد سالم، أم الخير الباروني، حنان محفوظ، سميرة البوزيدي، إيناس حميدة، نعيمة الزني، سعاد يونس، نجوى بن شتوان، غزالة الحريزي، خلود الفلاح، وجدان علي).
3.3/ النـثر يستـنطـقهن:
يتحول الجسد إلى لغة، النثر كنص معرفي يحاول استثمار رصيد الشاعرة المعرفي، وقوداً للمحرقة، و(لأن الواقع فرض على الأنثى/المرأة نمطاً حياتياً خاصاً، يعتمد رصيداً أو تركة من العادات والموروثات الاجتماعية التي جعلت من الأنثى/المرأة عيباً واجب الستر، فعاشت محاطة، مسورٌ ما حولها، فأنتج هذا (ارتداداً داخلياً) ، أي اتجاهها لذاتها (كذات مادية/محسوسة)، ومع هكذا حال تؤهلها هذه التركة التبحر واكتشاف أن الجسد هو محل الغواية للذكر/الرجل _باعتبار أنه المناصف حياتياً_، وإنها تظل تحفظ هذا الجسد وتعتني به حتى لحظة الاكتشاف الكبرى، لذا لم يكن من المستغرب أن تدك كل تفاصيل هذا الجسد، ومقدار الغواية في كل من تفاصيله (وحداته)، وكيف تسقط الإرادة والسلطة الذكورية أمام غوايته… وتقابل (نظرية الغواية) بـ180 درجة (نظرية رفض الجسد) من كونه قالبٌ مفروض، يفرض على هذا الكائن التحلي بخصال موضوعة سلفاً، أو مبرمج لها سلفاً،… فتطلق هذا الجسد تمرداً، صوتاً مطالباً بأن يكون، لا أن تفرض كينونته، فتخرج به مطالبة بإعادة اكتشافه، وترك نظرة الجاهلية والعصور المظلمة المضللة.. إذن هناك نظريتان متقابلتان تحياهما الأنثى، والكاتبة تتفاعل أكثر مع هذا حال، فتراوح بين السير في الغواية، والرفض، صارخة رافضة وغاوية)29، الجسد ينتصر ويؤكد حضوره.
وهو رغبة للاعتراف بوجود جسد، له قدسيته واحترامه وتقديره، له اشتهاءه ورغباته، بعيداً عن ضوابط التقاليد التي إما ترى صرّه، أو فحشه.. قصيدة النثر استنطقت الجسد في عقول الشاعرات في ألوان من الرغبات والحاجات والحقوق والواجبات.
نص: تهالة التي لا تقال/ الشاعرة: عائشة المغربي30:
أريد استعادة طفولة نهدي/ وعشقي البريء/ اللعنة عليه/ كم هو موغل في الوحل/ سرقني الليل والانتظار.
في مرحلة أولى يُـعاد إنتاج الجسد (لـغة) ثيمة أو موضوعة، تعمل على رفض الرؤية الموضوعة سلفاً، أو المفترض أن يكون عليها (ما يقدمه الإرث الاجتماعي ويفرضه)، فلا ترهب الشاعرة تقديم جسدها وكشفه، مسقطة عنه قدسيته المفروضة، مطالبة بأن يكون جسداً مجرداً عن الغواية، جسداً قابلاً للتعاطي مع المجتمع دون نظرة (الجسد الممنوع)، إنها تحاول أن تقول إنها إنسان له حق الحياة والتمتع والمشاركة، وإن الجسد وعاء، لا لعنة تلاحقها.
نص: الصيرورة/ الشاعرة: فوزية شلابي31.
لم يعد جسدي يمنحني اشتهاءات الزمان الأول/ إذ يتمادى العسل في ارتقاء الزلال،/ ويفضح المدى عن لونه السديمي/ وتطلع الإشارات من لمح الدهشة.
وتكمله في النص التالي:
نص/ عربيداً كان رامبو32:
شهقت موسيقى القرنفل/ امرأة عارية/ تستر القصيدة بفخذيها/ وللظلال الغامقة/ تشذب حنايا ظهرها الثلجي،/ فيغور/ في خطوط اللوحة (رامبو)/ عربيداً كان/ يدنو من الكرسي،/ ومن أصابعي يفر.
وفي مراجعتنا للمتن الشعري النسوي الليبـي، نكتشف أن الجسد في مرحلة لاحقة قُـصد لغايته، خاصة وأن بعض أجزائه ومناطقه استأثرت بالغنيمة، منها: (العينان، الشفتـان، الجبين، الوجه، النهدان، الصدر، الخصر، الذرعان، اليدان، الكفان، الأصابع، الجذع، الفخذان، القدمان، الشعر) وبعضها كان أبعداً في الاستخدام وذلك:
1- لدلالته، كبعد تأثيري عند المتلقي (غواية).
2- إسقاطه، وكشفه (إسقاط الغواية).
وكأن الشاعرة، تعمل من خلال ازدواج مقنن (غواية è الجسد ç إسقاط الغواية)، وهي نية تراوغ فيها الشاعرة، مدية النص للوجهة التي تريد. إن الشعاعرة تقدم الظاهر المخفي، ومنح الظاهر قدرة الإمكان، فاليد مثلاً كجزء ظاهر يتحول إلى فتنة ومفتاح إشعال، فالمس فعل اليد، نصٌ مشاكس مغري. أما الصدر/النهد كجزءٍ مخفي، فـتراهن الشاعرة على فعلها المكتوب لكشفه/ تعريته/ تقديمه/ أو تحويل النظر عنه في صفة الثدي أو فعل الإرضاع.
في مرحلة ثالثة، بدأ الجسد يتخلى عن سكونه، عن مجرد الجزء أو المنطقة إلى المشاركة في الفعل، المشاركة في النص، أن يكون فاعلاً قادراً على القول.
نص: حين يشتهيني النخيل/ الشاعرة: دلال المغربي33:
الليلة يشتهيني القلم/ فكيف لا أعري نهدي/ كيف لا أريه صحراء الروح/ والخيول تصهل في خواء الجسد.
في مرحلة لاحقة، بداية من تسعينيات القرن الماضي، بدأت الشاعرة تتخلى عن جسدها، وتكفي منه بالأثر الحادث أو الواقع عليه، وهو تطور إيجابي عكست فيه الشاعرة قدرتها على التعامل بحرفية مع النص، فتحول الجسد من (مسكوتٍ عنه) إلى (موضوع مفـعَّل)، إلى (مسألة مفروغ منها)، وأعيد هذا:
1- التبدل الاجتماعي الكبير الحادث، والذي تحولت معه المرأة إلى عنصر فاعل في المجتمع، وأيضاً قبول المشاهدة 2- كعنصر ثقافي.
طبيعة المرحلة، التي افترضت التعويل على الرؤية (الإبصار)، فكان من الطبيعي أن تعيد الشاعرة النظر، لتختصر المشهد في الأثر.
نص: خوف/ الشاعرة: أم الخير الباروني34.
البارحة بعدما غادرتـني/ على غير عادتي/ لم ألمس الماء/ ولم أشرب/ خفت/ خفت أن أنطـفئ.
نص: نشوة الصباح/ الشاعرة: حليمة العائب35:
لأجلك ابتسمت هذا الصباح/ ابتسمت،/ كي تزهر بين يدي.
وفي ختام هذه الملاحظة، لنرصد هذا الأثر القادر على إطلاق صوت الشاعرة أثراً أبعد في التـأثير، كيف يكون هذا الجسد في الأثر الذي يتحقـق في اكتماله بالآخر ليـكون، تقول الشاعرة: دلال المغربي:
من يغتصبني ؟
ليفك إساري
لأولد من جديد.
يتبع في الجزء الثالث…