النقد

اللغة وأبعادها في قاموسية القصة القصيرة للأديب سالم العبّار

القاص والكاتب سالم العبار
القاص والكاتب سالم العبار

عادة ما يكون الجدل فيما وراءه يعني الدوام والاستمرار وحين يتوج القاص عنوان قصته (جدلية الحمائم والنجوم) فإنّ بارقته الأولى للانطلاق بالنص من تداول هذا العنوان ليوحي لنا بالحياة والولادة المستمرة لها مهما كانت صورتها المرتبطة بذهنية من يعيشونها…

اختار للغته الكلمات التي تنبعث من قاموس السماء من حمائم ونجوم لم يهبط بها الى الارض وقاعها، وهذا منتهى الذكاء في اختياره اللفظي لدلالات قصته التي حوت على الحمائم/ القمر/ النجوم/ البرق/ الغيوم/ الشمس…

هنا تسمو لغته بتمهيد بارع لما في الحياة من هنّات هبوطها الذي اوحى له من خلال المعاناة التي يعيشها الفقير، والسبات والتأخر الذي تعيشه تلك البلدة من مظاهر القهر والفقر بينما كانت السماء تعج بسحابها وتذرف الدموع كذلك ابتعد القمر بقدرة إلهية مدحوراً الى الجنوب ليرتاح في حضن سحابة لا ماء فيها.

كانت دلالات السحاب والسماء السوداء والنجوم والبرق الذي يفض عذرية النجوم تعني الفئة المغايرة للفقر بشتى صفوفها ورغم أنها لم تكن تهنأ بهذا السمو والعلو حيث العقلية المأسورة والتي تتحكم فيها قيود وقهر من نوع آخر غير الفقر؛ وتظل هذه الجدلية قائمة مدى الحياة، نخبة لا تهنأ وقاعدة بسيطة لا ترتاح، (العبار) قاموسييه لغته اتخذت من التضاد مسلكاً لتقديم الفكرة للقارئ، سواد السماء (ثم لفها بالآسود) (البرق والغيوم) (النصف الفارق وعيون الدولة) (الشمس في جسده) (الاستيقاظ والسكرة) (اكثر توهجاً كلما غرقوا) (وجهه البني مضاء بنور الشمس) والتضاد في اللغة يعني المفارقة المتقاربة والتي تفتح المجال للتفكير فيما سيؤول إليه المعنى.

نذكر هنا أن كثافة الرمز في لغة (النص) منغلقة ونتساءل: هل هو نوع من استفزاز ذهنية القارئ؟ والدعوة لوضع تفاسير عديدة لما يريده النص من وصول فكرته لهذا غاصت بعمق هذه القصة وانغلقت في كثير من التفاصيل في (الرمز) لكنها تنفرج بعد التمعن الكثير في مختلف الصور والأخيلة كلما قرأنا فقرات النص انعراجاً لحظياً معتمدة على ما تملكه دخيلة القارئ من تفسيرات، ولهذا تفتح آفاق المتلقي إلى عوالم الخيال أو الحقيقة حسب ما تمليه طبيعة ومخيلة المتلقي، ولهذا نجح الكاتب في استفزاز المتلقي حيناً، وتحريك الراكد فيه أحايين.

القصة هنا عند الكاتب لم تتقيد بمعايير مسطرة القصة التقليدية بل انطلقت من قيودها إلى رحاب أوسع تكاد تلتحم بالشعر في محاولة لكتابة نص مقارب لعوالم الإبداع الأخرى. وقد تكون هذه ميزة تميز نصوص كاتبنا ويتفرد بها، ولنقرأ النص التالي في غمرة هذه القصة لنؤكد هذا التقارب…

(إنها المدينة

الآن تتقيأ في هذا السكون

الذي ينزف عقلها المؤلم

وأنا أقف وحدي

وامتص من أذني آلام البلدة

التي هي آلامي

وهذا التمرد لا يأت)

اتخذت القصة من الشخوص أسماء مستعارة أو كنايات دالة عليها كالقمر والشمس والسماء والبرق، ولم تتسمى بالبشر إلاّ (سنية) و(سعدو) هذان الاسمان غلب عليهما الاندثار ولما يظهرا إلا في ختام القصة وكأن الكاتب أراد ظهورهما خافيتين لا حراك قوى لهما في القصة لما لنهاية القصة من دلالة على ضعف البشر أمام قوة جدلية الحياة والموت والتي يكون فيها الانسان هو الحلقة الأضعف.

> الشهادة…

كأن هذه القصة كتبت بدمعة حانية على طفل لم يدر ما يحل به حين يفاجئه قدر الرحيل الذي لم يكن له بد في وصوله له فهو يرسم حاضره ومستقبله دون أن يفك رموز قذفت به إلى الموت المحتم فالصورة التي تحكيها القصة من علامات أصابع ذاك الطفل والتي تعطي رسالة مبرقة للقارئ بأن ذلك الطفل المعوز اضطر أمام المصورين أن يعلن عن حالة عدم معرفته لمن يتحكم في مصيره، الصورة المحكية دلالة كاملة ثم التركيز عليها في هذا النص كبرقية بريدية عاجلة بأن طفولة ما في مكان ما تساق لمصير غير معلوم. كانت اللغة صريحة في استعارة الطفل كإسقاط لشيء قد يكون أمة أو شعباً، أو قضية، فالقصص هنا أكد وجوده معبراً عن حالات الصمت التي قد تجر صاحبها إلى مالا يعلم.

نجح النص في إيصال الفكرة بهذه الصورة نجد الرمز هنا أخف وطأة من قصص أخرى للكاتب. فجاءت لغته سهلة ممتنعة بما فيها من اخيلة مثل (ربيع أزهر من أصابعه) كانت الاستعارة هنا بليغة وتحمل جمال اللغة التي يتحملها إصبع طفل. كانت غير متكلفة وغير معتمة أو معقدة، وهنا تتناسب اختيارات الجملة في حضرة الطفولة ببراءتها وببساطتها لذاك نجح الكاتب في اختيار قاموس لغته الغنية.

> الخبز…

إزاحة الواقع إلى خيال ثم العكس هذا أسلوب أجاده الكاتب في هذا النص حيث ربط الحقيقة بالحلم وفعّل شخصي القصة لحوار ملفت للغاية، هل كان الكاتب يقول لنا أنّ الشهيد حي لا يموت وهذا تأثير لموروث ديني واستقاء من كتاب الله؟ أم أنه لشد حبه لأبنه لم يشأ أن يفارقه فصوره معه في أحداث القصة، ولحساسية الزمن عنده ربط بين (الليلة الماضية) وبين موروثاً ماضي وربط الحدث بما بعد الليلة الماضية بفجرها فعلاقة الزمن هنا علاقة ازلية أبدية لم يفصل بين الموت والحياة بل تواصلتا كحياة مكتملة.

كان الرابط هو طابور الخبزة وهو المكان، فالزمكان في هذه القصة ملازم للحدث؛ كان الخبز اسقاطاً لحالة ملحة تظهر لنا الصورة الملازمة للقصة تدور حول حاجة الأرملة وحاجة من يثيرون الجلبة والضوضاء في الطابور.

مقالات ذات علاقة

النـثر يقــود الثـورة .. الشـعر يطلق أصواتـهن – ج2

رامز رمضان النويصري

الواقعي والمتخيل في قصة “البيت” للأديب الليبي فتحي نصيب

المشرف العام

بعضاً من سيرة العبودية..

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق