المقالة

الخيار الصعب: الإستبداد أو الفوضى!

“الدّاء: استعباد البرية، والدّواء: استرداد الحرّيّة.”

الكواكبي

 

منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، كنت أعمل في مدينة سيول بدولة كوريا الجنوبية، وكنت أتردد بإنتظام في بعض أيام الإسبوع على مسجد المدينة، ويقع مسجد المدينة في منطقة تسمى إيتيوان، يعلو تلة ترتفع بقامتها السامقة فوق كل قممم المدينة. مساءآت سيول من تلك القمة تزيد من بهاء المكان وتضيف إلى روحانيته روح، وتجعله باحة من باحات الوجد الصوفي، تسمو فيه النفس عن المكان.
في هذا المكن تعرفت على أخ فاضل من السعودية كان يدير فرع لشركة سعودية في كوريا، وكنا كلينا منبهرين بما حققه الشعب الكوري الجنوبي من تقدم مادي في دولة تغطي فيها الجبال أكثر من 70% من مساحتها، خرجت من حرب مدمرة قٌسِمت فيها إلى دولتين، كُبِلت إحداهما بكلاليب الفقر والتخلف، بينما سمت الأخرى في فضاءآت الكون الفسيح.

ذات مساء سألني هذا الصديق عن هذا الأمر، أو بدقة لماذا تقدمت كوريا الجنوبية وأسرائيل وغيرها من الدول في زمن قياسي، بينما شُدت دولنا بمخالب التخلف؟ ولم يطيل إنتضاره للإجابة حين باغته قائلا: الحرية!
نعم …. إنها الحرية، أداة التحليق والإبداع، وآلة التقدم والرخاء، بدونها تفقد الحضارة قيمتها، وتفقد الحياة بهجتها، وينتهي إنسانها إلى الركون لظل ألتخلف والجهل.
طبعا، الحديث عن الحرية مقترن بالسياسة، فالحرية السياسية هي المقصد، لأنها هي محرك التقدم للأمم التي تحرر مواطنيها سياسيا، لذلك نرى التقدم والرخاء يعم الفضاء الشمالي الغربي من الكرة الارضية، ويعم الفقر والظلام أفريقيا وأجزاء من أسيا، لكن لدولنا “العربية والأسلامية” نصيب الأسد من هذا التخلف، رغم أننا نعيش في قلب العالم، ونمتلك ثراوت يحسدنا عليها الصديق قبل العدو، وساهمنا بحكم موقعنا الجغرافي في كل الحضرات البشرية التي سطعت على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وأمتد شعاعها إلى كل أرجاء المعمورة.
الحرية قرين الإرتقاء المادي والاخلاقي، وغيابها قرين الإستبداد، وقد أدرك المسلمين معنى الإستبداد قبل غيرهم من الشعوب والامم، ودرسها المتقدمين والمتأخرين.
ولعل فرس السبق في هذا الحقل من المتأخرين دون منازع هو المفكر الفد السيد عبد الرحمن الكواكبي، الذي أدرك علة التخلف والانحطاط في المجتمعات الاسلامية، وكتب كتابه الشهير في هذا الموضوع والذي سماه “طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد”.
إعتبرالمفكر عبد الرحمن في فاتحة كتابه أن الإنحطاط مرض أصاب هذه الأمة، وقد حاول البحث عن أصل العلة، وأن يفرق بين مظاهرها وأسبابها. ولم يذهب لما ذهب اليه الكثيرون في أن سبب العلة التهاون في الدين، بل إعتبر التهاون في الدين نتيجة من نتائج الانحطاط وليس سببا له، وبذلك اسقط ما يتغنى به الكثيرين بإن العودة للدين سببا للإرتقاء، فالأصل الإرتقاء والحضارة سبب في العودة للدين والفضيلة وليس العكس. كما لم يرى الإختلاف في الآراء سبب في هذه العلة، بل ويرى في هذا الأختلاف فضيلة للعقل تميز بها العلماء في إختلافهم قبل الجهلاء.
خلاصة تجربته وبحوثه الطويلة جعلته يؤمن إمان راسخ بأن سبب الإنحطاط يعود الى الإستبداد السياسي، ونشر مقالاته التي ضمنها كتابه عن مفهوم الاستبداد وتأثيره في العلم والاخلاق والاقتصاد والعمران.
وفي تعريفه للإستبداد يقول ” الاستبداد في اصطلاح السّياسيين هو: تَصَرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة، والإستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرّف في شؤون الرّعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَين”.
هذا التعريف لا يختلف كثيرا على التعريفات الحديثة في قواميس الغرب المتقدم لهذا المصطلح، والذي يقرن مفهوم الإستبداد (despotism) بالحكم المطلق الذي يمارسه الفرد او الجماعة دون قيد ملزم إلا ما يراه الحاكم المستبد نفسه. وقد إقترن مصطلح الإستبداد بالتعسف والجور والتسلط، ووصُف المستبد بالجبار والطاغية، ووصف المستبد عليه بالمستعبد والخانع وحتى بالميت حيا!…..
ويدهشني فهم الكواكبي لطبيعة العلاقة السليمة بين المواطن وبيئته في الامم المتحضرة، حين أشار إلى ان “علاقة الانجليزي والامريكي بقومه وحكومته ليست الا علاقة شريك في شركة إختيارية، خلافا للأمم المتخلفة التي تتبع حكوماتها في كل شيء حتى فيما تدين”.
ويقر الكواكبي أن الاستبداد السياسي هو وليد للاستبداد الديني إن لم يكن قرينا له على اقل تقدير، فالتَّعاليم الدّينية “تدعو البشر إلى خشية قوّة عظيمة لا تُدرك العقول كُنْهَها، قوّة تتهدَّد الإنسان بكلّ مصيبة في الحياة وبعد الممات”.
والمستبدين أيضا، يبنون إستبدادهم على هذا الأساسٍ، فهم “يسترهبون النّاس بالتّعالي الشّخصي والتّشامخ الحسّي، ويُذلِّلونهم بالقهر والقوّة وسلبِ الأموال حتَّى يجعلونهم خاضعين لهم”. ويعتقد كما يقرر هو بنفسه “أنَّ التَّشاكل بين الدين والسياسة يجرُّ عوام الناس – وهم السواد الأعظم – إلى نقطة أنْ يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحقّ وبين المستبدّ المُطاع بالقهر”، وتصبح النتيجة الطبيعية أن لا يرى الناس “لأنفسهم حقّاً في مراقبة المستبدّ لإنتفاء النّسبة بين عظمته ودناءتهم”.
هذا لا يعني أن الدين مستبد بطبيعته، أو أنه يدعوا للإستبداد، فالقران يقر صراحة بالحرية المطلقة في قوله سبحانه من سورة الكافرون لكم دينكم ولي ديني، و قوله من سورة الكهف فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لكن إمكانية إستخدام الدين في جمح شهوة الناس للحرية ولجم إرادتهم هي التي جعلت منه اداة لسلب حرية الناس.
وللكواكبي رأي رائع في فهم الآية الكريمة ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فينتقد الفقهاء الذين يفسرونها على أنها سيطرة إفراد المسلمين بعظهم على بعض (على غرار هيئة الأمر بالمعروف في السعودية)، ويمجد الامم الراقية غير المسلمة التي إهتدت إلى معنى الاية وعملت بها عن طريق تكوين مجالس نواب تنوب عن الشعب في مراقبة الحكومات، فالقصد من الاية كما يفهمها الكوكبي هي مراقبة السلطة وليس مراقبة الناس.
وله رأي آخر لا يقل روعة في شرحه للحديث الشريف ” كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته” فاعتبرها اسمى قاعدة لمشروع سياسي، فالراعي في فهم الكوكبي هو سلطان ومسؤول عن الامة، وليس كما فسرت على ان المسلم راع على عائلته ومسؤول عنها فقط، لذلك فكل الناس سلاطين ومسؤولين، وليس من سلطان عليهم الا ما ارتضوه من شريعة او قانون او دستور.
شر الاستبداد لا يحيق بالفرد فقط، ولا بالزمان الذي نعيشه، لكن يتعداه الى الوطن والى الاجيال القادمة، وهو صادما للحياة وقاتل لها. وحين تربع الإستبداد على ليبيا في العقود الاربع الاخيرة، توقفت الحياة تماما، وتدنى مستوى التعليم فأصبح خريج الجامعة عاجزا عن تحرير سطرا واحد دون أخطاء ناهيك عن ان يسلم تفكيره، وتدنت الخدمات الصحية مما دفع الى نشوء نوع جديد من السياحة الى مشافي دول الجوار، وانهارت منظومة الاخلاق، وتكرست الغربة في الوطن، وتفشت البطالة، وتفاقمت الازمات الاجتماعية.
ولان الاستبداد شر كله لا خير فيه، فقد دعى جل المصلحين والمفكرين والفلاسفة الى الوقوف ضده والثورة عليه، واستإصاله، الا ان الاستبداد نجح في إقناع الشعوب المقهورة بوجود رابطة بين إستقرار الحياة وإستمرار المستبد على سدة الحكم، ونجح في رسم صورة قاتمة للمجهول القادم إن تم الاطاحة بالاستبداد.
فما البديل للإستبداد إن تم الاطاحة بالمستبد؟ الجواب واضح، إنها الفوضى. للأسف ليس لهذا المصطلح من موسيقى سجية ترتاح لها النفس البشرية، بل لها رنين مخيف يحيل الى عدم الارتياح، ومن النادر ان نستطيع الإلتفات الى معانيها الإجابية، أو حتى مجرد التفكير بأن للفوضى معاني أو مضامين اجابية!.
الفوضى – سياسيا- هي غياب السلطة الحاكمة، وسلوكيا هي الحريات غير المنضبطة. ولعل ما نراه في بلادنا خير دليل على ذلك، وهذا أيضا دليل الصدق الوحيد في إدعاء المستبدين. لذلك تُركنا أمام الخيار الصعب: الاستبداد او الفوضى. لكن، نعود ونسأل: هل مخارج ومآل الإستبداد والفوضي واحد؟ من الصعب التسليم بذلك …. الاستبداد داء، هو علة الانحطاط، وسبيل للتخلف، ووسيلة للجهل والفقر. الاستبداد واقع فاسد والفوضى حالة. الفوضى متنفس الإحتقان السابق لها، هي كالبركان يثور ويدمر لتستقر من بعد الارض المائجة تحته، وكالفيضانات يعقبها زرع خصيب تتنوع فيه الحياة وتزدهر.
وشتان بين الواقع والحالة، فالواقع الفاسد لا علاج له سوء التغيير، والحالة تقبل العلاج. وحالة الفوضى الى زوال عن طريق إسترجاع السلطة الغائبة وضبط الحريات وترشيدها. لذلك اقول الى كل الخائفين، والى كل المشككين في نتائج الثورة بإن نهاية الإستبداد هو بوابة الولوج الى الغد.

والله من وراء القصد

نينق بو- الصين 14/07/2014

مقالات ذات علاقة

كلاسيك (100/21)

حسن أبوقباعة المجبري

مقالات قصيرة جداً

محمد دربي

في متاهة المينوتورات

علي عبدالله

اترك تعليق