حنان علي كابو
يراهن على نفسه ومشروعه الأدبي، يكتب كثيرا، ينشر وتحظى كتاباته بالنشر في صحف ومواقع خارجية يكتب كثيرا ويحتفظ بما كتب لنفسه. نصوصا طويلة ترهقه تستنزفه فيخرجها من ملعب رأسه علها الكلمات تهدأ فيعود طفلا بلا ذكريات وتجارب.
لأسلوب الروائي الشاب شكري الميدي آجي، سحره الخاص يشدك من الوهلة الأولى، يتميز بغزارة معلوماته ودقتها وكيفية طرحها بنسقها الخاص والممتع، لم يتتبع أثر أحد، بل خلق بصمته الكتابية، هل حقق نبوءته عندما حبسه والده ذات عقاب في غرفة مكتظة بالكتب، هل يكمن السر هنا.. ربما.
جاء حواري معه عند خبر قرب صدور روايته “توقف نمو” بطبعتها الثانية عن دار الفرجاني للنشر والطباعة والتوزيع.
> عناوين إصداراتك توقف الانتباه… هل عن قصد؟
أجاب: لابد للعنوان أن يلفت الانتباه، وأن يكون في نفس الوقت ملخصاً لروح الرواية، فهو أول ما يُخاطب به خيال القراء، للوصول إلى “توقف نمو” استغرقت وقتاً طويلاً. ففي البداية استخدمتُ عنواناً استغربه الآن “هايكو لترميم الذاكرة” ثم عنواناً اشد غرابة “تناقضات العشق” وبعدها دخلت موجة عناوين تتبع تطور السرد مثل “أيقونة دوستويفسكي” و”منظر للغسق مع ضوء القمر الواهن” ثم تغير الأمر مع تبدل سير القصة صارت رواية عن حوادث قتل بشعة فأصبح العنوان: “موت غير طبيعي” لكن شخصيات أخرى أخذتْ تفرض مساحتها حتى إن شخصية هامشية مثل “الحصان الأبيض” غدتْ أساسية جداً ومهمة للسير الرواية، لا بل سميتُ الرواية: “الحصان الكهل الواقف عند الميناء” في هذه المرحلة كانتْ رواية قصيرة من 17 ألف كلمة، وظل هذا العنوان هو المعتمد حتى بعد المراجعة الأخيرة مع دار النشر، حين غدت الرواية أضخم وتصل لخمسين ألف كلمة لكن مثل كل الأمور القدرية استيقظتُ صباحاً بشعور غير مريح، فهذه ليست رواية عن حصان فقط وليست رواية عن الموت فقط وليست رواية عن ضوء في لوحة او أيقونة لشخصية، بل هي رواية عن حالة من كل ما سبق يمر بها جميع أبطالها، إنهم بطريقة او أخرى أسرى لزمن انتهى، لا يُمكنهم التخلص منه، حدث غامض أبقاهم وسط الفوضى، لم يتطوروا نفسياً قيد أنملة، فهم حرفيا ومجازيا في حالة توقف نمو. كان يجب أن أراسل دار النشر، وأخبرهم أن العنوان الأنسب هو “توقف نمو” فالشخصيات تعاني هكذا بلاهة، وقد فعلتُ هذا في آخر لحظة، واضطررت لضبط التشكيل ليظهر العنوان بشكله الموفق وبالفعل صدرتْ الرواية بهذا العنوان، ولا شيء أكثر دقة كاسم للرواية”.
> كيف بدأت التفكير في خيوط هذا التشابك لتتحول إلى رواية برمتها؟
أجاب :بدأتُ التفكير في الرواية منذ سنة 2007 حين شاهدتْ حصاناً أبيض عند ميناء بنغازي، بدا مسناً جداً ومتروكاً ليموت، في حالة مسكنة تامة -بلغة فان غوخ- لاحظت أن الحصان لا يختلف كثيراً عن الميناء الواقف عنده ولا يختلف الميناء نفسه عن المدينة التي يحرسها، كنت قضيت سنتين في بنغازي وأدركت إنها مدينة تعاني نوعاً من العقوبة والإبعاد، مع مرور الزمن تأكدت من هذا حتى غدت رواية تسجيل وثائقي لبنغازي طوال خمس سنوات تستعاد من الذاكرة، آنذاك سنة 2007 أنجزت 2400 كلمة وتركتها بين أوراقي، توقعتُ إنها رواية عن شخص يهرب من الناس، لكنها صارت عن شخصيات تبحث عن ذواتها أو تهرب منها، ويختلقون اهدافاً متشعبة فقط ليقدروا على مواصلة العيش، لكنني بدأتُ الكتابة الفعلية عام 2012، كنت تائهاً حتى قدم لي صديق اسمه فراس فيلماً عن كاتب يعمل ثلاث سنوات على كتاب ويرفض، حين تابعته، وجدت نفسي أمام روايتي، تقسيم بارع، شخصيات بسيطة، نهايات لا تحتكم إلى أي نوع من انواع العبر الأخلاقية، هكذا بدأت اكتب وأنشر في جسد الثقافة السعودي، عدة نصوص طويلة عدت إليها لاحقا لأشكل الرواية كما هي الآن، المرحلة الأخيرة استغرقتْ عشرة أيام متواصلة من الكتابة، حتى تشكلت الرواية كما هي حالياً.
> قلت له: كشاب روائي كيف استطعت تحديد ملامح مشروعك الروائي؟
أجاب :توقف نمو كانتْ بداية تشكل أسلوبي الكتابي، وبعض قصص مجموعتي “جيرمي الإيطالي يفتتح حانة في بنغازي” أحسست باستعدادي للدخول في ما يمكن تسميته المشروع الكتابي الخاص بي، أي إنني اعتبر نفسي لم أشرع بعد في كتابة هذا المشروع، مواضيعي الأهم لم اكتب عنها بعد، قصصي التي جهزت نفسي لإنجازها منذ أكثر من عشرين سنة لم أعمل فيها قلمي في شكل رواية، وهو ما أصارع لفعل شيء حيالها، لكن الكتابة للنشر لم تعد تستهويني، بالرغم من أنني اواصل الكتابة لنفسي، وأنشر قصصاً قصيرة في مدونتي وأرسل بعضها للمواقع الأدبية، لكنني أجد نفسي عاجزا عن تقبل نشر كتب جديدة، لذا كل كتاباتي الأساسية، المشروع الأدبي الخاص بي، ما يزال بعيداً عن النشر.
> ترى الكتابة انسلاخ عن الروح، أم فتح مساماتها بمشرط حاد؟
يشير الميدي آجي إن الكتابة كسر لجليد، بحسب كافكا، هناك دوماً المسكوت عنه، حوله تنشأ الأمراض المجتمعية بتحويلها لمقدسات بحكم الطبيعة، يصل الأمر إلى تصرفات تدميرية ضد كل من يحاول مناقشة أسباب حدوثها ويضيف “الكتابة عموما والرواية بالأخص تناقش هذا الانسياق وراء الدوغما، بالتالي يحدث ما يمكن وصفه بالانسلاخ، عن الافكار المتوارثة وعن ما يؤمن به المجتمع من عادات غير مفيدة لا بل مؤذية جداً، الكتابة تمثل هنا ايضا نوعا من فتح للمسام، مهمة يجد الكاتب نفسه في خضمها لمجرد اتباع قصصه المستمدة من محيطه، القصص تكون مرعبة للبعض، بالنسبة لي كانتْ الكتابة بمثابة وسيلة لفهم الأحداث والأشياء من حولي، ثم غدتْ لعبة السرية لمدة تصل لعقد كامل انتهت مع نشر “صديقي بركاي هامشي مي” قصتي الأولى في “صحيفة ميادين” سنة 2014 وجدتُ نفسي في نقاش مفتوح مع أشخاص لم أكن أعرفهم شخصياً، بالتالي تحولتْ لنوع من التواصل، شيء يُعبر عني ورؤيتي لما حولي للآخرين وهو ما لم يستمر طويلاً، إذ غدت أيضاً صراعاً لأجل تحقيق نص مختلف ومواصلة باتجاه نحت عالم قديم مختف، عمل شاق بمثابة نبش عن مدينة قديمة مدفونة، تتضح أكثر مع كل عملية كتابة، هذا ما حاولت فعله في “توقف نمو” النبش عن قصص طفولتي وكتابتها تحت تعكير شخص ما يزال يعاني من تبعاتها، لم يكن هذا سهلاً ويشبه إقحام وعي رجل ناضج في راس طفل بلا تجارب، ولابد ان يعرض بسلاسة تامة.
* شكري الميدي أجي يكتب القصة والرواية، ولد في العام 1984 صدر له (المكتباتي) 2016، (اسلوب جدي) 2016، (جيرمي الإيطالي يفتتح حانة في بنغازي) 2017. يقول عن ذلك “كتبي صدرت خارج ليبيا. الحديث عن اي تجربة لن يكون مفهوماً، لا بالنسبة لي او حتى لغيري، حتى الآن -بعد اصدار أربعة أعمال أدبية-لم أجد فرصة لفهم حجم وقيمة تجربتي، عدد قليل ممن قرأوا كتبي، لم تكن آرائهم شافية، فهم إما يشجعون بلا اي مناقشة للعمل او إن النقاش يبتعد عن الكتاب ليمس شخص المؤلف، أعول على طبعة الفرجاني ليصل الكتاب إلى قارئه الفعلي”.
* شكري التباوي الأصل موطنه الأساسي (الكفرة) يقول “أكثر من عقد كامل، وأنا في بنغازي، لكنني لم أتخل عن لهجتي التي أتيت بها من الكفرة. يُمكن الإدراك بسرعة كوني من مكان آخر، حتى إنني مازلت أحلم باللغة التباوية. بنغازي لا تمنح نفسها بسهولة، بل تُراهن على جعل الناس ينسون أصولهم، نجحت في فعل هذا طوال قرون، لكنها تفشل معي، أكسب رهان بكتاباتي المتواصلة عن أصلي التباوي وبلدتي تازر، عن جمال التباويات وصخب الأعراس والقصص التراثية، إنها تجعلني أحافظ على لياقتي لمواصلة الكتابة”.
الليبي اليوم | 8 يناير 2023م.