طيوب عربية

الفيتوري.. هواه إفريقي ولسانه عربي مبين

حالة فارقة في الشعر العربي الحديث

الشاعر محمد الفيتوري (الصورة: عن الشبكة)
الشاعر محمد الفيتوري (الصورة: عن الشبكة)

لماذا ارتبط الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري بإفريقيا، إلى ذلك الحد الذي صبغ تجربته بها؟ لماذا لم يكتب بأية لغة أخرى غير العربية وهو يخاطب قارته السمراء؟ ما الذي دعا الفيتوري وهو صاحب النزعة الشعرية الكبيرة، والنظرة الفلسفية العميقة للدفاع عن إفريقيا واثنين من بلادها سحبت عنه جنسيتها؟ هل استطاع التعبير عن هويتيه العربية والإفريقية معاً؟ هل مثّل الفيتوري كأحد رواد الحركة الشعرية الحديثة حالة صراع المثقف والشاعر بين حضارتين مثلما حاول العديدون التعبير بعد فترة الاستقلال؟ أم جسّد حالةً من التلاقي بينهما كحالة فارقة في الشعر العربي الحديث؟ أسئلة تتقافز وتفرض نفسها ونحن ننظر ونبحث في سجال الهوية واللغة في تجربة الفيتوري.

ربما نميل، بعد الاتفاق على شعرية الفيتوري ومكانته المرموقة في الشعر، وتميّز تجربته العميقة، إلى أنه جسّد حالةً فريدةً من التمازج العربي الإفريقي التي تتميز بها البلدان العربية في القارة السمراء، قضيةً كاملة الدسم، ولغةً عربيةً لها سطوتها المتميزة معنىً ومبنىً وتعبيراً.. هذه الحالة الفريدة في الموقف الأدبي، أشارت بوضوح إلى التأثير الكبير للغة العربية، ودورها المقدّر في طرح قضايا الشاعر بهويتيه العربية والإفريقية وما كانت تطمح له روح الشاعر، وهو ما يحسب لها كلغة تحاور الشعراء، وتخرج ما في مكنوناتهم وتعبر عنهم خير تعبير، ويمكننا القول بأنها كانت سرّ شاعرنا الكبير الفيتوري، للتعبير عن قضيته الكبرى، فاللغة والشاعر توأم لا ينفصلان، يعبّر كل منهما عن طموحات وآمال المثقف صاحب الرؤية.

في سيرة حياته المتنوعة حيث ولد في السودان ووالده من ليبيا، ونشأ ودرس وتخرج في مصر، وعمل في بلدان أخرى، مزج الفيتوري بين وراثته الصوفية الفلسفية، ودراسته للغة العربية والقرآن الكريم في كلية دار العلوم، وبين تداعيات الأحداث السياسية والثقافية في البلاد التي ينتمي إليها، ليخرج برؤى خاصة به، كانت أساس الوعي الذي امتلكه ليعبر عن القضايا، التي تخصه كعربي إفريقي صوفي شاعر وكاتب وباحث وصحافي وسياسي، متجول لا يهدأ له بال، سار في البلدان والعواصم التي أحبها وأحبوه فيها، مجسّداً حالة شاعر فريدة عاشق للعربية، عربيّ اللسان، إفريقي الهوى، فكان هو البوتقة التي تلاشت فيها الفواصل جميعها، لتُخرج دواوينه الثمانية عشرة والمسرحيتين غناءً عذباً، لما هو عليه من هوى وعشق.

ربما فعلت التجربة الاغترابية الطويلة التي عاشها الفيتوري، فعلها الساحر في عقل وقلب شاعرنا الكبير لتُخرج لنا أفضل ما عنده كونه يتمتع بشعرية رائعة وذائقة لا تقارن، فاستفاد وتفاعل مع المجتمعات الثقافية والأدبية في كل البلدان التي زارها، فكانت هناك القاهرة المحطة الأولى للدراسة وتفتح الوعي، وبيروت، وطرابلس، والخرطوم، ومختلف مدن المملكة المغربية، التي تزوج منها وتوفي فيها عام (2015م)، وهو لايزال ينبض بالشعر والحنين والتوق، إلى تقدم وتطور بلاده الواسعة، مضيفاً إليها نزعته الإنسانية بشكل عام، غير عابئ بتقلبات السياسة وأهلها، فعاش يقدم شعره وقراءاته للناس، ليصبح أحد رموزهم الكبيرة ولسانهم العربي الجميل.

لعل أبرز ما يميز شعر الفيتوري، هو مفرداته المباشرة التي تعود إلى نزعته البحثية والصحافية في اختيار الألفاظ الواضحة، غير بعيدٍ جداً عن الرمزية التي لازمت العديد من نظرائه من شعراء الستينيات والسبعينيات، كونها صارت معبراً لأفكارهم الجديدة، وقراءاتهم للواقع والفلسفة، إلى جانب انهماكه في البحث عن مقاربات تصل الأصل باللغة، وتنقب في الهوية وترنو إلى السماء بسمو الشاعر، وتقرّب ما بينهما، لتستريح نفس الشاعر فيه، مع أنها لم تكن متنازعة بين هويتين، بل على العكس، وجدت في اللغة العربية الجميلة كل المفردات التي تشكل هي نفسها هوية الشاعر ومنبع تعليمه وثقافته، لتتلاقى الهوية باللغة وتنتصران للقضية المركزية.

وكمعزوفة درويش متجول (عنوان ديوانه 1971) كما يقول في إحدى أشهر قصائده، عاش الفيتوري متنقلاً في ديوان اللغة التي درسها ويجيدها عبر حفظ القرآن الكريم، يختار ما يحلو له ليعبر به عن فكرته التأملية أو الواقعية، فقدم للمكتبة الشعرية العربية عبر كتاباته موضوعات شتى كانت هي ما هواه الفيتوري بنفسيته الحساسة المرهفة وأفكاره، وتقاطعات صراعاته السياسية، وصراعاته الداخلية في حقول الهوية التي حملها على كتفيه ليل نهار ببراعةٍ ليقدم نموذجاً في التعبير عن هويةٍ متجاوزاً علماء التاريخ والجغرافيا في مزجهما معاً والتعبير عن هوية واحدة حملت خاتم الفيتوري.

عاش الفيتوري زمنه، كشاعر، حراً متنقلاً بين البلدان التي ينتمني إليها، كما يقول الطيب صالح في روايته الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال) على لسان مصطفى سعيد بطل الرواية، وهو يقدم تعريفاً لنفسه إلى زوجته فيما بعد، إيزابيلا سيمور، عندما قابلها للمرة الأولى: (أنا مثل عطيل.. عربي إفريقي).. عاش، وهو الذي رُدّ له جوازا سفره السوداني والليبي تكريماً له، ليقول الشعر جميلاً ومباشراً، ينحت في قواميس اللغة العربية مستنطقاً الحروف والكلمات، ومعبّراً بها عن هذا التمازج الفريد، وعابراً بمحطات التاريخ في زواهر الماضي، والحاضر، ومبشراً بمستقبل أفضل.

حتى رحيله، ظل الفيتوري، وفياً لفكرة تداخل الشعر والفلسفة والبحث في الجذور، والنزوع إلى درجات الكمال الإنساني، لتكون القصيدة هي الأخرى وفيّة للنفس البشرية، تغوص في أعماقها، وتستدعي التاريخ ومواقفه الجميلة، الأقرب إلى الحماسة، وظل كذلك وهو يصارع المرض، حيث ظهر لمرةٍ نادرة قبل وفاته وهو يستمع إلى قصائد من الشاعر السوداني الشاب محمد عبدالباري، الذي ظهر هو الآخر بقصائد جديدة تحمل ذات النغمات الفلسفية، والفيتوري يستمع ويردد بعد كل قصيدة.. الله.. الله.. دلالة على إعجابه بالشعر، الذي ابتعد عن قلمه ولم يستطع البعد عن قلبه وعقله.


الشارقة الثقافية | العدد الأربعون، 1 فبراير 2020م

مقالات ذات علاقة

قصة حيرة شرطي

نعمان رباع (الأردن)

التّداوي من الكآبة بالكتابة

المشرف العام

رشا سمير: المرأة أصل الحكي.. والنمطية تقتل الابداع

سالم الحريك

اترك تعليق