يظل عالم الأرواح مسرحا لتلاطم أمواج العقل البشري الذي يؤمن به تارة ويتناوله كإحدى المسلمات الكونية ويكفر به تارة أخرى فيهرب من أي ركن قد تفوح منه رائحة العالم الآخر..
لكن هذا العالم الخفي كان دائما كوة الأسرار المحاطة بهالة من الجمال الغامض الذي يجذب المبدعين من مفكرين وفلاسفة وشعراء وروائيين وحتى تشكيليين، فالنفس البشرية متاهة والجسد البشري متاهة والأرواح أيضا متاهات تسبح في متاهات أعظم وأكثر تعقيدا..
الأرواح سجينة الأجساد تموت الأخيرة لتنطلق الأولى من عقالها سابحة في ملكوتها قابضة على آخر شهقات الخلود.. الروح عند الفلاسفة وعند أفلاطون تحديدا هي عقل ونفس ورغبة، النفس بعاطفتها ومشاعرها والرغبة بنزواتها وانفعالاتها والعقل الذي يكبح جماح الاثنين إذا ما هم بالانفلات، أما بعض علماء العصر الحديث فيحصرون مفردة الروح كمرادف للعقل فقط وهذا الأخير أيضا له دلالات وتعريفات تراوح بين المرئي واللامرئي..
عندما بدأت قراءة هذه الرواية حاولت أن أضع العنوان جانبا حتى أتعامل معها بشيء من الواقعية ولا أبني فكرة مسبقة عنها فأمنعها من أن تصدمني، ورغم ذلك فإنها قد فعلت وخرجت منها وقد أرهقتني أحداثها فوجدتني أعيش مع أبطالها مشاعرهم وانفعالاتهم إلى الحد الذي جعلني أبحث في نافذتي عن وجه لا لوج رينوار وأتحسس بأصابعي الجزء المحروق من وجه حواء الحلو العراقية وأتثاءب عندما أقرأ عن النوم العميق الذي كانت تستسلم له بعد نوبات الصرع، وأنظر خلفي وأنا أمشي باحثة عن طرف عباءة حواء الذهبي الذي لا يفارق خطواتها إلى المجهول..
شيء من تشتت لذيذ أصابني بعد أن أنهيت قراءة الرواية، رجعت إلى بدايتها لأعاود تجميع صورها التي أذهلتني، ومن عربة القطار المتجه إلى باريس في العام 2013 ووصوله بعد نفق طويل من الظلام والضباب إلى وجهته في الرصيف رقم 6 ستة تحديدا، أصبحت أعيد بعض مشاهدها وأنا أراها كما خمنت أرواحاً هائمة أطلقها حادث خروج قطار من سكته فغادرت الأجساد الميتة لكنها لم تكتف بالامتثال لرغبة الموت بل استمرت في دروب الحياة وواصلت خطواتها بعد أن صنعت لها عالما يحتويها ويؤطر رغبتها في الاستمرار في الحياة، فوجدنا روح حواء ذي النورين تستمر في رحلة البحث عن الحياة الكريمة التي حلمت بها في بلادها قبل أن يموت جسدها وتغادره الروح الراغبة في العيش أكثر، ووجدنا إيفا سميث تعود أو تتوهم العودة إلى أمها وزوجها وأطفالها لتحاول روحها الاستمرار في دور الأم والزوجة الفاضلة دون أن تهمل هذه المرة جنون رغبتها المخنوقة عمرا وهي تتجاهلها لأن المرأة الصالحة تفعل ذلك..
“نعم.. الحجرة مظلمة جدا.. وهذا يخيفني.. لكن لابد من أن ندخل”… برأيي لقد اختصر برهان شاوي الكثير عندما وضع هذا الاقتباس لفرناندو آرابال في الصفحات الأولى لروايته، فشكلت هذه العبارة مع العنوان “متاهة الأرواح المنسية” منطلقا واثقا لقارئ أراد أن يدخل هذا العالم بملء إرادته ليقرأ الحكايات التي عمدتها الخيبات والمرارة فكلاهما كما يرد على لسان أحد أبطاله كلاهما منبع للحكي..
وقد شكل كل الحواءات والأوادم في الرواية سلسلة نفسية واجتماعية تصف بدقة ما عليه مجتمعاتنا العربية من تناقض مرعب وادعاء للفضيلة يقترب من اليقين الذي يجعل بعضها تمنع وتحظر قراءة وتداول هذه المتاهات وغيرها من النتاج الفكري الذي نحمد العلم على منحه لنا..
وتتشعب خبايا النفس البشرية وتزداد غموضا وحلكة ويمتد هذا السر الكوني المسمى آدم وحواء غير آبه بالمكان وضاربا بالزمان عرض الحائط، فالوجع واحد ونصله الحاد كما هو قادر على مهاجمة حواء التي تعيش مع زوجها الفقير في إحدى قرى الأردن، لن تعجزه حواء من باريس تملك كل شيء وتتدثر بالسعادة، فيهاجمها ويقلب حياتها رأسا على عقب.
نعم إن المكان يتلاشى عندما نرى الفرنسية القابضة على جمر الفضيلة، الشاهرة سيف العفة في وجه النزوات لسنين طويلة ونرى الشرقية التي تضع خلفيتها الثقافية والدينية جانبا بل تصنع منها جسرا وتنطلق منه باحثة عن نفسها وعن إنسانيتها التي تبيح لها الخطأ وتسمح لها بأن تهتز في مواجهة ريح الشهوة..
ولأن عوالم برهان شاوي لا حدود مكانية وجغرافية لها فإن قصص أبطال متاهته هذه جاءت غنية ومتشعبة ومتشبعة بكل المشاعر والأحاسيس البشرية وأيضا الثراء الفكري الذي يميز هذه الشخصيات المراوح بعضها بين الخوف والتمرد، فآدم سميث المتحايل على القانون بزواج ديني من أخرى لا يتردد في وصف البشر بالوحوش الضارية والناعمة في الوقت نفسه لأن الشعوب كلها تشعر بالفخر عندما تقتل أكبر عدد من أبناء الشعوب المعادية لها وكل شعب يعتبر قتلاه شهداء ويحتفل بأعياد النصر التي لا تعدو كونها أعياداً للجريمة وهروباً من الذاكرة المليئة بالأشباح والدم..
وحواء الحلو اللبنانية التي ترغب في أن تمزق كفنها وتتحرر منه رغم معرفتها أنها ستكون عارية بدونه، برغم ذلك تجتاحها موجات من التمرد فتصارع كفنها في كل مرة لكن الخوف يضعف مقاومتها ويجعلها تعتبر لحظات التمرد تلك مجرد نزوات ولحظات ضعف فتعود لتتساءل: هل هذا الكفن مقدس؟
وربما كل حواء في هذا العالم “لديها ترسبات من خوف غامض تريد أن تتجاوز ترددها وتستعيد مكامن قوتها وتخرج كل ما بداخلها من صراخ”.. بعضهن تفعل وبعضهن تموت فينتهي كل شيء وبعضهن تتكفل أرواحهن بهذه الأحلام بعد فناء الأجساد، وهذا ما تفعله حواء الحلو المسترسلة في رحلة التيه حتى وهي حرة من سلطة الجسد المنتمي لهذا العالم..
إن برهان شاوي بمعرفته التي تتجاوز حدود المكان وتتجاوز الشخصية العراقية إلى الإنسان في كل مكان رصد لنا كل ما قد يضطرم ويتأجج داخل النفس البشرية من أسئلة وأفكار وتصورات لما قد تكون عليه الصورة المثالية لحياة أحدهم، ماذا نريد من هذه الحياة وإلى أين نحن ماضون بها ومعها؟
تقول إيفا ماريا الذهبي إحدى حواءات الرواية: “برغم التمرد الذي في أعماقي.. فأنا أخاف جبروت العائلة والدين”.. نستطيع ببساطة أن نجعل هذه العبارة نشيدا رسميا لملايين النساء والفتيات في هذا العالم.. والوحدة أيضا ذاك الشعور الذي يحبذه البعض ويسعى إليه وينفر منه البعض الآخر ويتجنبه، تقف عنده إيفا سميث قلقة فتقول: “أريد أن أكون وحدي دون أن أشعر بالوحدة، أخاف أن أكون وحيدة”.
وكيف تصف حواء ذو النورين نظرات صديقتها إيفا بأنها: “تشي بظمأ مجهول لشيء غامض لا تدركه سوى النساء”.
وأنا أضيف: نعم لا تدركه سوى النساء، ورجل عليم.
وآدم بن آدم الذي يساوره قلق الكتابة ويتمنى أن يكتب عملا جبارا لكن وجود الأسماء الكبيرة في عالم الكتابة يثنيه عن عزمه، ولذلك هو روح هائمة في متاهة.. لأن أوادم هذا الزمان لا يثنيهم شيء عن الكتابة والتأليف والإنتاج الغزير…
لا قدرة أكاديمية لدي ولا مرجعية لنقد هذا العمل الكبير لبرهان شاوي إنما هي رغبة قارئة في أن تدخل من هذا الباب الذي فتحه شاعر وروائي ومترجم وناقد وإعلامي وأكاديمي ومخرج وسينمائي فكان بوابة أخذتني إلى عالم رحب، أحطت ببعض ملامحه وعجزت عن فهم بعضها الآخر، رأيتُني كثيرا في بعض مشاهد هذه الرواية وكل حواء في هذا العالم ستجد ما يشبهها هنا..
برهان شاوي الشاعر يقول: “ما الخيبات إلا أحلام ميتة”.
وبين آدم المفتي وظهوره الورقي الهزيل وحواء الذهبي وظهورها الذي يشعرك بأنها ربة المكان تولد العشرات من الشخصيات والأرواح اللاهثة وراء سر الوجود، لتمارس لعبة التيه فنغرق معها في هذه المتاهة التي صممها برهان شاوي بمواصفات تناسب معايير الكون بكل أسراره وتفاصيله وأيضا لا تعترف بالمكان فهي واحدة في فرنسا كما في إيطاليا كما في العراق ولبنان وروسيا ومصر وألمانيا والأردن وكل بقعة في مسرحها العظيم..
أخيرا وعلى لسان حواءات كثيرات تقول إيفا ماريا الذهبي إحدى بطلات هذه المتاهة: “لماذا لا يجيبني الله لو كان موجودا في السماء؟ في بعض الليالي الباردة كنت أفكر في الله.. وأقول إنه الآن يشعر بالبرد فآخذ غطائي وأتسلل إلى السطح خلسة لأعطيه الغطاء لكني كنت أشعر بالخوف والوحشة وأنزل مسرعة لأختفي في فراشي.. كنت أحيانا أضع الطعام على السطح كي يأكل إذا ما جاع.. كنت أشعر أن الله وحيد وأعزل فهو لم يلد ولم يولد وليس لديه أهل يعتنون به.. كنت أبحث عن الله في كل ما أقرأ ولم أجده في الكتب.. حتى في الكتب المقدسة وجدت ربا مخيفا منتقما.. تقول لي أمي إن القرآن كلام الله.. ازداد ارتيابي وترامت حيرتي.. كيف يتكلم الله؟ الغريب أنني كنت واعية إلى أن صلاتي وقيامي كان ضحكا على نفسي.. فأنا لم أجد نفسي مذنبة أو مخطئة كي أستغفر في صلاتي ودعائي عن شيء وظلم لم أقترفه.. وبرغم ذلك عشت متزمتة له ولنواهيه.. لكني خلعت ذاك الطمر لما قرأت مليا بيد أن هسيس الأصوات الغامضة لم يتوقف في أعماق جمجمتي حتى اللحظة”…