رواية (الحب والخبز) للروائية الفلسطينية أسيا (خولة) عبدالهادي
طيوب عربية

الواقعيةُ الفلسطينيةُ والخيالِ الروائي في (الحُبُّ والخبز)(*)

1 – استهلال:

بعد أكثر من نصف قرن على بداية مأساة الشعب الفلسطيني استعادت الروائية آسيا (خولة) عبدالهادي وعيها الفكري وتوازنها العاطفي، وأزاحت الغبار عن تركتها الماضوية، واستنطقت ذاكرتها الشابة لإعادة شريط مشاهداتها ومعاناتها أثناء معايشتها الشخصية أحداث (النكبة) أولى الهزائم العربية في الحرب ضد إسرائيل سنة 1948م وخسارة الفلسطينين أرضهم والعرب والمسلمين قدسهم، ثم حرب (العدوان الثلاثي) سنة 1956م التي شنتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، وإثرها حرب (النكسة) أو (الأيام الستة) في يونيو 1967م وهزيمة العرب بعد ضم قطاع غزة  والضفة الغربية والجولان وسيناء إلى حدود دولة الإحتلال الصهيوني. وقد عملت هذه الذاكرة الإنسانية الثرية بالأحداث المؤلمة على تفريغ حمولتها المعرفية وعذاباتها القاسية وتجربتها الخاصة في روايتها الأولى (الحبُّ والخبز)(1) الصادرة سنة 2006م والتي نحاول تسليط الضوء على بعض جوانبها الموضوعية والفنية في هذه الكتابة.

2 – سيرة الذات والوطن:

تكتسي رواية (الحبُّ والخبز) للكاتبة آسيا خولة عبدالهادي أهمية خاصة بين العديد من الروايات الصادرة المتعلقة بالشأن الفلسطيني، وذلك لانتمائها إلى ما يعرف بالأدب الواقعي المتسم بالموضوعية الجادة، واستعراض وتتبع مشاهدات وسير وحكايات ووقائع حقيقية، والابتعاد عن الفانتازيا والأخيلة الواسعة الجذابة، وهي كما تقول عنها الكاتبة نفسها (إنَّ أحداث هذه الرواية تشكل جزءاً كبيراً من الواقع الفلسطيني الإنساني الأليم الذي عاشته معظم الأُسر الفلسطينية ما بين عامي 1948- 1967م)(2)، ولكن هذا المذهب السردي الواقعي لم يظهر مفرداً وحيداً في هذه الرواية بشكل مطلق، بل تطعم في بعض مواضعه بالكثير من الصور الفنية التي صنعتها الكاتبة من وحي خيالها لإضفاء المزيد من التشويق والجاذبية على نصّ الرواية، والذي تضمن محطات سيرية مبثوتة في ثنايا سرد واقعي، تستذكر فيه الكاتبة مشاهدات مأساوية مؤلمة، وتستعرض تفاصيل المعاناة الحقيقية التي كابدتها شخصيا،ً حتى انصبغ النصُّ الروائي بتلك الخاصية الواقعية لسيرة فردية تتقاطع مع سير غيرية عديدة أخرى للكثير من الفلسطينيين الذين تشاركوا نفس الظروف الاجتماعية القاسية، وتوحدت جميع هذه السير بكل أبعادها وتقاطعاتها وهمومها الإنسانية، لتشكل تاريخ وسيرة الوطن الفلسطيني بأكمله، ممثلة بالتقاطاتٍ موجعة وأليمة لأحداث النكبة التي طوحت بالشعب الفلسطيني في مخيمات اللاجئين وما تبعها من تشريد ومعاناة وأهوال وحروب بهدف إفناء هذا الشعب ومسح هويته وأصالته ووطنه جغرافياً وإنسانياً.

وتستهل الكاتبة فصول روايتها (الحبُّ والخبز) بالحديث عن بعض معاناة وظروف مغادرة الأسرة بيتها وتقول (دخلنا بلدة رفيديا من أعمال نابلس من الجهة التي أشار إليها والدي وبدأت السيارة تتسلق تلاً صغيراً بجهدٍ ملحوظٍ كعجوزٍ غادره الشباب منذ دهر وينوء ظهره بهموم السنين فتهتز قدماه ويترنح جسده.. بلدة هادئة، منازلها من الحجر الأبيض الجميل، تختفي شوارعها بين أشجار كثيفة مرصوفة جيداً. ظهرت مئذنة الجامع العالية تطل بشموخ في السماء نظرت “فرح” بسعادة وقالت:

  • يا سلام ما أكثر الشجر؟ ما أحلى هالبلد أنا مشتاقة للوصول إلى بيتنا الجديد.)(3)

وعلى هذا المنوال تسرد الكاتبة حكايتها مع عائلتها أثناء نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، وتسجل مشاهداتها المختلفة، فالبيت الجديد الذي تقصده (فرح) الفتاة الصغيرة شقيقة الساردة (أسماء) هو ملجأ آخر غير بيت الأسرة الأصلي الذي غادرته بسبب النكبة والاحتلال، وقد يكون مغارة جبلية موحشة لجأت أسرة الكاتبة للسكن والعيش فيها لمدة عامين بعد تدمير منزلهم في قريتهم (سلمة) التي كانت تقطنها بقضاء (يافا) وتبعد حوالي 5 كيلو مترات عن وسط المدينة داخل فلسطين.(4)

والكاتبة إذ تروي كل تلك التفاصيل فكأنها تسجل مذكراتها الخاصة لتمارس دورها التوثيقي الوطني في تدوين سيرة حياتها كمواطنة فلسطينية واجهت معاناة حقيقية عاشتها بكل ظروفها الحزينة، ولم تستسلم لهزيمة الذات الإنسانية فيها، لإسكات صوت الحق في أعماقها، ولم تكتب بصفتها أديبة روائية تنجز عملاً إبداعياً ما، بل نقلت حكايتها الشخصية وقضية احتلال وطنها الفلسطيني بكل وقائعها المؤلمة، وقدمت شهادة حية حول مجريات أحداث عصفت بعائلتها ووطنها وما فيها من مرارة وعذاب، في تتابع سردي زمني لمدة قرابة ثمانية عشرة سنة منذ حدوث نكبة 1948م وحتى حرب 1967م، وهذا يؤكد انتماء الرواية إلى الأدب الواقعي، والذي يمكن أن نصفه هنا كذلك بأدب المقاومة الذي واجه مخططات هزيمة الكيان الفلسطيني وطمس حقوقه المغتصبة وقصة وطنه المحتل.

3 – عتبة العنوان (الحبُّ والخبز):

جاءت البنية التركيبية لعنوان الرواية في مفردتين أولاهما (الحُبُّ) وهي كلمة وجدانية حسِّية تشير إلى مستوى تجذر العلاقة السامية لعشق الوطن بهويته ورؤيته المطلقة، ومفهومه الأبعد والأشمل، بجميع عناصر مكوناته المادية واللامادية التراثية والحضارية التاريخية والمعاصرة، وتفاعلها مع كل ما يتعالق معها من أعمال وثقافات إنسانية تفيض عطاء وإعماراً، من أجل الارتقاء بالوطن موقعاً جغرافياً مادياً، ومنهلاً فكرياً محفزاً للسمو بالإنسان ذاته بقيمه ومكانته.

أما المفردة الثانية فهي (الخبزُ) والتي تمثل الوسيلة المادية الأدنى والأبسط والأفقر، في سلم الأولويات والحاجات الحياتية الأساسية التي يعيش بها الإنسان في أي وطن أو مكان، والتي توفر له الطاقة الغذائية والمقدرة الذهنية لبذل الغالي والرخيص من أجل وطنه، والذوذ عنه والتضحية في سبيل نيل حريته وسيادته، رغم أن الأحداث التي تعرض لها (الوطن الفلسطيني) جعلت رغيف الخبز خلال النكبة والحروب ضد المحتل يصبح غاية صعبة المنال، ويتعذر الحصول عليه إلا بشق الأنفس.

ولاشك أن تلاحم مفردتي (الحبّ) و(الخبز) بهذا الترتيب في ثنائية مادية وحسية تمنح عتبة الرواية بهيكلها الشكلي الظاهري، جاذبية إعلانية، تحفز على مطالعتها، والتعرف على العلاقة بين هاتين المفردتين ومدى ارتباطهما معاً داخل سياقات النصِّ. أما على صعيد المضمون فهما يمثلان محركاً عاطفياً عظيماً للدفع بتأثيت السرد المتنوع وبث التشويق المتواصل لملاحقة صدى هاتين المفردتين في جميع فصول الرواية ورصد مجرياتها في إطارهما.

4 – الأنا والآخر في (الحبُّ والخبز):

الأنا في العمل الروائي يقصد بها الشخصية الفنية بكل ما تمثله وتشير إليه أثناء مجريات أحداث الرواية، وغالباً تسخر الأنا الفردية الذاتية وكذلك الجماعية، لدعم شخصية الأنا الفنية ومساعدتها، أو مقارنتها بشخصية الآخر. وإذا كانت شخصية “الأنا” قد ظهرت واضحة هنا في الرواية ممثلة بصوت السادرة (أسماء) التي تنوب الكاتبة في الحكي لسيرتها ومشاهداتها للأحداث، وتسجيلها للوقائع التي عاشتها، وشهاداتها المباشرة على الجرائم الصهيونية البشعة، وسياسات التنكيل والإرهاب والقتل والتهجير والخراب، فإن شخصية “الآخر” قد تعدد ظهورها في هذه الرواية، مثلما هي في الروايات الفلسطينية الوطنية كافةً، صورة عامةً متعلقة بالجوانب الإنسانية المباشرة، والحكم عليها من خلال تعاملاتها الدالة على مدى تعاطفها الشعوري وتضامنها مع الأوضاع والمكابدات التي يقاسيها الفلسطينيون جراء تهجيرهم وممارسة وسائل الإرهاب والقتل الهمجي عليهم نساءً أو أطفالاً أو شيوخاً أو شباباً أو رجالاً.

وقد احتضنت (الحبّ والخبز) عدة صور للآخر بشكله الإيحائي المادي والمعنوي الذي يحيلنا إلى فلسطين مثل الوطن والأرض والقرية والبيت، حيث ترمز كلها للمكان الجغرافي الفلسطيني ذاته، أو الآخر العلني الصريح المتمثل في شخصيات الأسرة الفلسطينية المتكونة من الأب (سعيد) والأم (رسمية) والأبناء (فرح، نعمة، أسماء، منذر، ماهر، سامي، مهند) وكذلك الأصدقاء، والجيران، وحتى العسكري الصهيوني المحتل، والعميل الفلسطيني الخائن، وغيرهم.

وإن كان يغلب على ظهور شخصية الأنا في النص الفلسطيني عامةً تميزها بالقوة والشجاعة والصمود وتحدي الفقر والقهر ومقاومة الاحتلال، والانتصار على اليأس والإحباط، ورفض التنازل عن حق العودة للأرض المحتلة، فإن استحضارها في النصّ الإبداعي يأتي لكي تستطيع الكاتبة من خلالها إظهار الأنا الفلسطينية متميزة ومتفردة وغالباً تنال دور البطولة في مواصلة النضال واستمرارية التضحية من أجل تحقيق حلم العودة. كما تصنع الكاتبة بعض العلائق أو عقد المقارنات المتفاوتة، بهدف توظيفها لبث شحنات القوة وروح الأمل فيها، وجعلها تتسلح بوسائل صمود ومقاومة شعورية وطنية، وفكرية عقائدية لمواجهة وكشف ضعف شخصية الآخر نفسه، سواء المحتل أو أنصاره من العملاء أو الرجعيين العرب، والانتصار عليه لتحقيق حلم العودة وتأكيد العهد الوطني الفلسطيني (عائدون)(5).

الروائية الفلسطينية أسيا (خولة) عبدالهادي
الروائية الفلسطينية أسيا (خولة) عبدالهادي

5 – شخصيات (الحبّ والخبز):

زخرت رواية (الحبُّ والخبز) بظهور عددٍ كبيرٍ جداً من الشخصيات التي لعبت أدواراً مختلفة، وقد ظلت شخصية الكاتبة حاضرة من خلال صوت الساردة في جميع فصول الرواية كشخصية رئيسية، باعتبارها الشاهدة على تفاصيل الأحداث ووقائعها الحقيقية، وقيامها بوظيفة الحكي والقص متسترة وراء الساردة (أسماء). وقد برعت الكاتبة في أسلوبها بمهارة وأتقنت التعبير والنقل الدقيق للأحداث، مع التحوير اللازم بشيء من الصنعة الفنية الروائية التشويقية، لعرض تفاصيل تجربتها الشخصية.

وحول هذا التوظيف البارع للواقع وعرضه أسلوبياً بمستوى جذاب ومشوق، يمكن القول إن أسلوب الكاتبة ظهر ربما على غرار أسلوب الروائي الروسي الكبير (دوستويفسكي) في رائعته (الجريمة والعقاب)(6) المتضمنة عدداً من تجاربه الشخصية الحياتية مع الفقر والسجن والمرض والقمار والخمر، وجميع أشكال المغامرة الذاتية المتنوعة التي استثمرها لصياغة رواية عالمية رائعة، يرجع أصل موضوعها إلى قضية واقعية تناولها الأديب الروسي تناولاً فنياً مبهراً، من حيث البنيوية الروائية وعرض المضامين الفلسفية، مما جعلها ترتقي بالذوق الإنساني إلى مراتب إبداعية رفيعة(7). وربما لهذا السبب تمت ترجمة رواية (الحبُّ والخبز) إلى اللغة الروسية ومنحها سنة 2022م جائزة الترتيب الأول والميدالية الذهبية التذكارية للفنان الروسي الكبير (نيكولاي كريلوف) من المستشار العام للعاصمة الروسية موسكو، رئيس لجنة الجوائز التي تمنح سنوياً للمبدعين داخل روسيا وخارجها.

وبالإضافة إلى شخصية الكاتبة الساردة تتابع ظهور شخصيات أخرى بالرواية بلغت أكثر من خمسين شخصية سواء من الأسرة والأقارب مثل الجد الحاج محمد حسين العلي، والجد الحاج رمضان عبد الهادي وغيرهما. وتصف الساردة معظم الشخصيات الفلسطينية بتضامن مشاعرهم تجاه الوطن في محنته وتقاسمهم الحياة بكل ظروفها، وتقول بأنهم (أناس طيبون أخذوا يواسون أمي عندما كانت تذرف الدموع خجلاً وحيرة ًقائلين: المشكلة ليست مشكلتكم وحدكم.. إنها مأساة الجميع. الله يستر ماذا سيحدث بعد ذلك؟ المحتلون لئام لن يسكتوا عند هذا الحد، ونرجو أن يتعلم العرب وأن يتحدوا.)(8)

ويرجع تعدد الشخصيات بالرواية نتيجة الأمكنة الكثيرة التي بلغت سبعة أماكن تنقلت إليها الأسرة إثر خروجها من بيتها الأصلي، وتنوعت هذه التنقلات للسكن تارة بين مغارة بأحد الكهوف تفتقد للوسائل المعيشية الصحية والأمنية، وتارة أخرى ببيوت مستأجرة، وكذلك السكن في الريف بيت خال الأسرة “إبراهيم” لفترة قصيرة، ثم الرجوع ثانية للسكن في المغارة لمدة طويلة، حتى وفرت لهم مديرة المدرسة سكناً قرب المدرسة ظلت به الأسرة حتى مغادرة الأب (سعيد) للعمل في الكويت(9).

وقد أجادت الكاتبة وصف ورسم ملامح جميع شخصيات الرواية وأظهرت التأثر السيكولوجي والتباين النفسي الذي يطرأ عليها ظاهرياً وداخلياً جراء التنقل من مكان لآخر، والذي ألصق بهم صفة (النازحين) أو(اللاجئين) القاسية المريرة، وظلت صفةً ملازمة لهم، تذكرهم بأهمية ومفهوم الوطن الذي طرحته الرواية متلاحماً مع الذات الإنسانية بكل ما تمثله من قيم ومباديء ومتطلبات مادية للبقاء على هذه الحياة (الإنسان بدون وطن متهمٌ في كل شيء، مطعونٌ في كرامته. الإنسانُ بلا وطن تنتهك حرمته، ويضيع شرفه، وتضيع قوته .. لماذا تركنا بلادنا؟)(10)

 إن هذا السؤال الحزين الذي أطلقته الرواية بكل مرارة في وجوهنا جميعاً يجعلنا نفكر في البحث عن إجابته لعلنا نجدها لدى القاريء أو الشعوب العربية أو الأمم المتحدة، مع التأكيد على أن الشطر الغائب أو المسكوت عنه المكمل لهذا السؤال هو كيف يمكننا الرجوع إلى بلادنا التي تركناها؟ ويجيب عنه الأب (سعيد) بكل صراحة ووضوح وهو يخاطب زوجته (رسمية) أثناء مغادرته البيت ملبياً نداء النضال والجهاد للالتحاق مع قوافل الفدائيين من أجل فلسطين قائلاً: (لا يعيدها إلاَّ الكفاح، ولن يرجعها إلا القتال .. لازم نروح يا رسمية .. ولو على جثتنا.)(11، ومن خلال هذا القول نكتشف أن الرواية حددت الوسيلة المجدية لإيجاد حد لمعاناة الفلسطينين، وحل لاسترجاع الأرض الفلسطينية، وهي بذلك ترسخ مبدأ (ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلاَّ بالقوة) الذي رفعته الشعوب العربية شعاراً قومياً بجانب اللاءات الثلاث (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف).   

6 – الشخصيات البطلة:

من بين الشخصيات المتعددة التي تباينت أدوارها وتوقيت ظهورها في الرواية برزت شخصياتٌ بطلة ظلت دائمة وحاضرة طوال السرد سواء إيحائية رمزية، مثل الأرض والقرية والبيت وهي كلها مصحوبة بحالة الحنين أو النوستالجيا التي ترحل بالحلم الفردي وكذلك الجماعي إلى فلسطين ما قبل الخروج والنزوح، وما تختزنه من ذكريات ماضوية وتحمله النفس من أحلام وتطلعات ترحل بالمستقبل للعودة إليها. أما الشخصيات البطلة العلنية الصريحة فقد تناوبت على صحبة القاريء خلال جميع فصول الرواية، وهي الكاتبة الحقيقية بأنفاسها المتدفقة، وطيفها وصوتها الذي استعارته الساردة لتروي حكايتها بتفاعل مثير ومشوق مع أحداثها ومعاناتها، وقد اتسمت في نقلها بالصدق والإحساس المرهف الحزين غالباً. كما حظيت شخصية الأم (رسمية) بغزارة الظهور وجسدت فعلاً المرأة الفلسطينية المناضلة البطلة، التي ربت أولادها رغم الفقر على العفة والكرامة والإيمان بقيم الحياة النبيلة وحب فلسطين والتضحية من أجلها.

7- الخاتمة:

تتجول رواية (الحبُّ والخبر) بالقاريء عبر محطات التاريخ الفلسطني الفارقة منذ بداية النكبة بلغة تصويرية مؤثرة تتعالق مع الميثولوجيا الشعبية والأغنية التراثية والأناشيد الوطنية والأمثال الشعبية لتلتصق بالواقع الاجتماعي الفلسطيني وتتماهى في ثنايا الإيقاع المعتاد للحياة اليومية للأسرة الفلسطينية وانشغالها بالشأن الوطني وتطوراته على الأصعدة السياسية العربية والعالمية كافةً، وبذلك فهي بجدارة تنتمي إلى الأدب الموضوعي الجاد الذي يوظف لخدمة قضية ما.

وبالرجوع إلى الغايات الأساسية والأهداف التي دفعت بالكاتبة إلى إنجاز وإصدار روايتها الممتعة (الحبُّ والخبز)، بغرض تقديم شهادة حية عما جرى في فترة زمنية مهمة في تاريخ النضال الفلسطيني والصراع العربي الإسرائيلي وتوثيقها أدبياً، نجدها قد بذلت جهداً كبيراً، واستحضرت من ذاكرتها الكثير من المشاهدات الواقعية، التي سجلتها في عمل روائي ممتع ومشوق، يمثل إضافة مهمة للرواية الفلسطسنية خاصة والرواية العربية بصورة عامة.

وإذا كان ميشيل ريفاتار في كتابه (صناعة النصّ) يؤكد بأن (الأسلوب هو النصّ ذاته)(12) فإن الكاتبة اعتمدت أسلوباً روائياً سلساً وواضحاً ينقل رسالة نصها الوطني بكل أريحية، ويبعث في القاريء المزيد من التشويق والرغبة للتعرف على مجريات أحداث الرواية المنبثقة من شهادة شخصية، وتتبع سيرة إنسانية عاصرت المعاناة الفلسطينية وشهدت تفاصيلها المروعة.

وقد جاءت خاتمة رواية (الحبُّ والخبز) واقعية مؤلمة وحزينة قاسية إثر الهزيمة العربية وخسارة الحرب وتوسع الاحتلال الصهيوني في ابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، الأمر الذي ولد شعوراً مؤسفاً لدى الساردة وهي تنقل معاناة الأب (سعيد) أثناء متابعته لأخبار الهزيمة في المعارك الحربية بكل مرارة حين تصفه وهو يصرخ غاضباً (خط الدفاع الثاني .. أهذا ما قاله المذيع  … الثاني .. خط الدفاع الثاني .. ويقفز أبي من ركنه … خط الدفاع الثاني .. ويصرخ .. وتنفجر اللوعة في نفسه…. ضاعت فلسطين .. ضاعت يا أولاد..سقطت فلسطين كلها .. انتصر العدو .. لقد خسرنا الحرب ..).

ولكن رغم تلك الصدمة الكبيرة والخسارة الفادحة للجيوش العربية إلاّ أن الرواية لا تستسلم، بل تحاول أن تبعث بعض الأمل في عودة الروح للنضال العربي من خلال العمل الفدائي المسلح الذي ينضم إليه الأب دون مبالاة بأي شيء من أجل العودة إلى أرضه ووطنه فلسطين، ولا يلتفت إلى نداءات ابنته حين يقرر عازماً المضي في طريق العمل الفدائي غير مبالي بالسجن أو الاعتقال (أنا ذاهب .. يركض على القدمين المتعبين والجسد النحيل يترنح .. أبي .. أبي إلى أين أنت ذاهب؟ .. إلى أين ..؟ سوف يسجنونك .. سوف يعتقلونك .. إنه لا يسمع .. فقد ذهب بعيداً .. هو عائدٌ إليها .. هو عائدٌ إلى هناك .. هو يطير بلا أجنحة ..ونحن… لا بد من العودة .. لا بد أن نذهب .. نحن العائدون .. نعم العائدون .. عائدون .. عائدون .. إننا لعائدون .. ولكن متى …؟؟؟؟ …  وللقصة بقية….. فلم تنته بعد.….)، ويسجل هذا المشهد  الختامي الأخير لرواية (الحب والخبز) موقف الرواية من استمرارية النضال العربي حتى عودة الشعب الفلسطيني لكامل أرضه وإعادة الحقوق لأبناء للوطن المغتصب.

إن رواية (الحبُّ والخبز) بإمكاننا أثناء مطالعتها أن نقرأ صفحة مهمة من صفحات التاريخ العربي والفلسطيني من خلالها، ونرتب وقائع الماضي وفق مجرياتها، ونتعرف على الأحداث التي شكلت أهمية في الصراع الفلسطيني مع العدو الصهيوني مثل نكبة 1948م والعدوان الثلاثي على مصر 1956م وانفصال دولة الوحدة بين مصر وسوريا سنة1961م، وحرب الأيام الستة 1967م، وهذه تسجل وقائع فلسطينية لازالت حاضرة في الذاكرة التاريخية الفلسطينية والعربية، وحتى إن أضفت عليها الكاتبة بعضاً من أخيلتها البسيطة فقد جاءت تلبية لطبيعة كتابة العمل الإبداعي الروائي ونسجها وفق هذه التقنيات السردية المطلوبة. وفي نهايتها لم تتوقف الرواية عند ذاك الماضي وتجعله خاتمة للصراع العربي الفلسطيني بل استمدت من انتكاساته روح التحدي الانطلاق نحو المستقبل من خلال موقفها الوطني بضرورة استمرارية النضال العربي وعودة الشعب الفلسطيني لأرضه وإعادة الاعتبار لوطنه المحتل، كما أكدت الرواية في خاتمتها على أن المعركة لم تنته بعد وللقصة .. بقية ستكتبها الأجيال الفلسطينية القادمة.


هوامش

 (1)  الحبُّ والخبز، رواية، آسيا (خولة) عبدالهادي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2006م

(2)  المصدر السابق نفسه

(3) المصدر السابق نفسه

(4) ترجع المصادر التاريخية تسمية قرية (سلمه) إلى الصحابي الجليل (سلمه ابن هاشم بن المغيرة بن علي بن مخزوم القرشي المخزومي). وهي تقع على بعد 5 كيلو مترات شرق مدينة يافا بفلسطين. وقد بلغ عدد سكان القرية أثناء النكبة عام 1948م حوالي (7807) نسمة. وتؤكد ذات المصادر أن أهالي القرية خاضوا معارك بطولية باسلة ضد المحتلين الصهاينة عام 1948م، وقامت قوات العصابات الصهيونية بتشريدهم رداً على ذلك.

(5)  انظر: الأنا والآخر في الرواية الفلسطينية، أمين دراوشة، وزارة الثقافة الفلسطينية، الطبعة الأولى، 2016م

(6)  الجريمة والعقاب، دوستويفسكي، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، بلا ط. بلا ت.

(7)  انظر: كراسات أدبية، خليفة محمد التليسي، الدار العربية للكتاب، 1975م، ص 192

(8)  الحبُّ والخبز، مصدر سابق، ص 88

(9)  الحبُّ والخبز، مصدر سابق، ص 236

(10)  الحبُّ والخبز، مصدر سابق، ص 29

(11)  الحبُّ والخبز، مصدر سابق، نفس الصفحة السابقة

(12)  انظر: بحوث في النصِّ الأدبي، د. محمد الهادي الطرابلسي، الدار العربية للكتاب، تونس – ليبيا، الطبعة الأولى، 1988م، ص 11-26


(*)  ورقة مقدمة إلى ندوة (الرواية الفلسطينية) التي تنظمها الجمعية الليبية للآداب والفنون، يوم الثلاثاء الموافق 5 مارس 2024م بقاعة القبة الفلكية بمدينة طرابلس

مقالات ذات علاقة

صدور الطبعة العربية من رواية “المحطة إيلفن” للكاتبة الكندية إميلى ماندل

المشرف العام

المشاء تشريني

إشبيليا الجبوري (العراق)

حكاية قصيدة

عادل بشير الصاري

اترك تعليق