الطيوب | متابعة وتصوير : مهنَّد سليمان
احتضنت دار محمود بي للثقافة بالمدينة القديمة طرابلس ليلة الثلاثاء 26 مارس الجاري حوارية تكريمية للكاتب والأديب الليبي “منصور أبوشناف” في إطار فعاليات دورة أيام الخير لليالي المدينة الموسم الرمضاني لعام 2024م بحضور كبير ولافت للنخب الأدبية والصحفية والإعلامية، واستهل الشاعر والكاتب “خالد درويش” الذي تولى بدوره محاورة أبوشناف بتوطئة أشاد من خلالها على أهمية المنزلة الكبيرة التي يحظى بها المنجز الإبداعي لأبوشناف ضمن المشهد الأدبي الليبي متوقفا عند محطات من سيرته الذاتية.
الخطوات الأولى نحو المستقبل
فيما أعاد أبوشناف سبر أغوار الذاكرة مفتشا في جيوب الأيام الخوالي عن بواكير صلته بعالم الأدب والفعل الكتابي إذ أشار بأن أول عمل مسرحي يكتبه في مسيرته كان وهو بعد طالبا في المرحلة الإعدادية مشيرا إلى أن كتابته لنصه المسرحي الشهير (عندما تحكم الجرذان) تزامنت مع دراسته الثانوية فضلا عن مواظبته على النشر بصحيفة الفجر الجديد بشكل منتظم وقتذاك، وأضاف أبوشناف بالقول : إنه كان محظوظا حينما سمحت له الظروف مبكرا بالكتابة والنشر ويُرجع ذلك إلى نشأته وسط بيئة جعلته يُعبِّر عن مكنونات ذاته بهامش كبير، كما يذكر أبوشناف تجربته في الوقوف للأول مرة كممثل على الرُكح عام 1965 بتشجيع ودفع من قِبل الفنان “إبراهيم الكميلي” بمدرسة مصراتة المركزية بعد انتقاله من منطقة بني وليد ذات الطابع الريفي والبدوي، ويضيف أبوشناف أنه رغم عدم استمراريته كممثل إلا أنه الفنان الكميلي وطّد صلته بدنيا المسرح مذ ذاك الوقت، وأكد أبوشناف في سياق حواره بأنه كان ينتمي إلى جيل تميّز بحظوظ وافرة إلى حد كبير مُبررا ذلك بتوفر مُناخ مؤسساتي كان سائدا في ليبيا آنذاك فمثلا مؤسسة المدرسة حسب أبوشناف كانت تضطلع بمسؤولية رعاية طلابها والاهتمام بتكوينهم العلمي على رأسهم أساتذة ومعلمين حقيقيين اعتنوا بتدريس المسرح والموسيقى والرسم، وتابع أبوشناف قائلا : إن الفضل في تكوينه ونشأته ثقافيا وفكريا أولا إلى المدرسة ثم إلى المعلمين الأوائل في مدرسة مصراتة المركزية.
العصر الذهبي لمصراتة
ووصف أبوشناف مدينة مصراتة بأنها كانت بمثابة المشتل لما تمتعت به المدينة من زخم ثقافي وفني وتعليمي في رعاية المواهب أوان تلكم المرحلة، وتناول أبوشناف جانبا آخر شكّل منعطفا في مسيرته تمثل في انتقاله من بيئة مجتمع بني وليد البسيط والفقير والأميّ الذي يفتقر فيه منزل أبواه للكتاب والمكتبة إلى براح مدينة مصراتة، ومن مصراتة ومدرستها المركزية ارتبط أبوشناف بالكتاب والمكتبة بحكم وجود المكتبة المدرسية هناك بواسطة استعارة الكتب وقراءتها وتلخيصها، ولازال أبوشناف يحتفظ في سجل ذكريات بأول كتاب قرأه وهو (قصة فتح الأندلس) عام 1965م علاوة على خدمات المركز الثقافي الذي كان يُوّفر المجلة والصحيفة والكتاب للطلبة المهتمين بنهل العلوم والمعارف كذلك مكتبة المدينة، وأشار أبوشناف إلى واصفا واقع الفاقة والإهمال الشديدين ببني وليد آواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن المنصرم دفعت بعائلته لتخصيص جزء من منزلهم (المربوعة) لكي يصبح مدرسة يدرس بها الطلاب مؤقتا قبل أن تُشيِّد لاحقا هيئة الإمم المتحدة مدرسة بالمنطقة، وأردف أبوشناف أنه حالما انتقل للإقامة والدراسة في مدينة مصراتة اختلف الحال تماما فمصراتة حينها كانت مجتمع زراعي فلاحي تجاري بالإضافة لبداية لوجود مشروع نهضوي حقيقي داخل مصراتة ظهرت ملامحه في المركز الثقافي، والمدرسة المركزية، وفرقة المسرح، وأكد أبوشناف أن انتقاله من بيئة إلى بيئة أخرى مثّل له حالة اغتراب وهذا الاغتراب وفق تعبير أبوشناف حفّزه لاكتساب المعرفة وللتعبير عن الذات تحت ظل مُناخ منفتح ساعده كثيرا، وبدايته الفعلية في الكتابة انطلقت من نشر كتاباته الأولى على الصحف الحائطية إلى جانب محاولات الكتابة للمسرح وممارسة التمثيل ففي نهايات المرحلة الإعدادية وبداية المرحلة الثانوية كان منصور أبوشناف من أشبال المسرح الوطني في مصراتة، وأشرف على تعليمهم أصول ومهارات الفن المسرحي الفنان والممثل المصري “عبد البديع العربي”، ثم انتقاله للمسرح الجامعي وانخراطه في العمل باتحاد الطلبة.
آواصر الشغف مع التاريخ القديم
بينما أوضح أبوشناف مرة أخرى أنه انتمى إلى جيل تمتع بميزة توفر مؤسسات حقيقية للدولة كالمدرسة ودورالمعلم وهو ما حُرمت منه الأجيال اللاحقة، وهذه الركائز ساهمت في تكوين وصقل جيل أبوشناف في ضوء المحاولات الطموحة للمجتمع الليبي إبّان فترة الستينيات للمعرفة والتنوير والنهضة، مؤكدا بأن المجتمع الليبي كان وقتذاك يراهن على التعليم ويُعوِّل عليه في بناء معالم المستقبل، واستمر هذا الوعي حتى نهاية السبعينيات، وأعرب أبوشناف عن اهتمامه الشديد بمتابعة ما يجري على الساحة حاليا بقراءة كل ما يصدر عن ليبيا في المنشورات العالمية بعدة لغات أجنبية، وأردف قائلا : إنه وجد الدارسين الأجانب للتاريخ والواقع الليبي وصلوا بدراساتهم لأعمق مما وصلنا إليه نحن بالكشف عن بعض الجوانب داخل حركة مجتمعنا الليبي، وفي إجابة عن سؤال كيف ولد الشغف لدى أبوشناف بالنقوش التاريخية وكتابات الفن الصخري قال أبوشناف إن ملامسته لهذا الشغب بدأت تترعرع مع قراءته لكتاب المؤرخ الليبي “محمد مصطفى بازامة” المعنون (ليبيا هذا الاسم في جذوره التاريخية) الصادر عام 1965م ويحكي هذا الكتاب عن عربات الجرمنت وعن الأهرامات الليبية، ويبيّن أبوشناف بأن هذا الكتاب استرعى انتباهه إلى كيان مهم وكبير اسمه ليبيا الليبيون يجهلونه، وأضاف أبوشناف أن كتاب بازامة يُعد مرجعيته الأولى كونه أسس لعلاقته الجوهرية بالتاريخ الليبي القديم، وحسب قوله أن تجربة السجن وسّعت مداركه حول الكثير من التأملات عن المجتمع الليبي تاريخيا، وتابع بالقول انه بدأ بتلمّس بلورة وتطور الكيان الليبي عبر التاريخ من مرحلة ما قبل التاريخ وصولا إلى التاريخ المعاصر، موضحا أن مشروع بحثه في تاريخ ليبيا ظل همّه الأساسي، وأردف قائلا : بعد اطلاعه وقراءته للفنون والآداب ولجزء كبير من التاريخ كانت أولويته بعد الخروج من السجن هي التعرّف على ليبيا بطريقة مباشرة وليست ضمن الكتب فقط ما جعله يقوم بعدد كبير من الجولات والرحلات امتدت لنحو عشرة آلاف كيلو في الصحراء الليبية وزيارته لأبرز المواقع التاريخية الهامة شمالا وجنوبا متتبعا الفنون الصخرية بدءا من منطقة (إبيار مجّي) في ترهونة مرورا بوادي الناقة في درنة والمنصورة في البيضاء انتهاءً بالجبل الغربي وبجبال أكاكوس.
اقتفاء أثر المواقع التاريخية
وواصل أبوشناف حديثه السردي بالقول : إنه تتبع نشأة وتطور الإله الليبي “آمون” الذي عُبد في مصر ووجدت لديه عدة معابد قديمة جدا في ككلة والخضراء في الترهونة وزاوية المحجوب في مصراتة وفي أوجلة وسيوة، وأضاف أبو شناف أيضا بأنه تتبع تطور الزوايا الليبية في ليبيا وما لعبته هذه الزوايا من أدوار دينية وسياسية للدفاع عن عروبة وإسلام هذا الكيان من زاوية الدكالي إلى زاوية العالم والزوايا السنوسية بالمنطقة الشرقية حتى ذهابه إلى مدينة تمبكتو الواقعة بشمالي مالي متتبعا الأثر الليبي الهائل هناك فضلا عن تتبع تاريخ المكتبة الليبية انطلاقا من مكتبة شروت بالجبل الغربي فهذه المكتبة المركزية قبل ضياعها كانت تضم مخطوطات الأساسية المتعلقة بالدين الإسلامي واللغة العربية، وأكد أبوشناف بأنه أثناء بحثه المغمور بالشغف اكتشف أن ليبيا هي عبارة عن قارة من الحضارات فمثلا في منطقة زويلة وجد ثلاثة مدن فوق بعضها البعض مدينة فينيقية مقبورة ومدينة رومانية ومدينة إسلامية ذاكرا تتبعه لتحولات الموروث المعرفي الليبي عبر وسائل التوصيل الليبية محاولا من لوحات جبال أكاكوس وما أنتجته من أيقونات كالمثلث والحويتة فليس ثمة قطيعة بين الليبيين وبين ذاك التاريخ فاستمر هذا التواصل في النسيج والحُلي والفضيات.
انكماش المبدع الليبي
من جانب آخر أبدى أبوشناف استغرابه بأن الليبيين برغم هذا الكيان العظيم بيد أن الشعب يعاني حالة انفصال عن هذا الكيان ولاوعي ملحوظ مؤكدا بأن المشكلة لا تكمن في انقطاع الليبيين عن هذا الموروث بقدر تكمن في مسألة الوعي به موضحا أن مشروعه الحقيقي هو النبش في هذا الموروث وربطه بالوعي الجمعي واظهاره لسطح الوعي وإعادة الثقة بهذا الكيان الليبي فنحن وفق أبوشناف قد فقدنا الثقة بكياننا لدرجة أننا تبنينا فكرة أن هذا الكيان مجرد صندوق رمل إنما الكيان الليبي مليء وثري جدا بل هو أكثر ثراءً من الكيانات الأخرى، وعن الأدب الليبي تحدث أبوشناف قائلا : إن الأدباء الليبيين كانوا يعيشون هاجسا بعدم الاعتراف العربي بمنتوجهم الأدبي والفكري فالمبدع الليبي تلقى صدمات كثيرة ونكران كبير من الأدب العربي، ويعتقد أبوشناف أن هذا الأمر ليس بغريب باعتبار تحكّم ما سماها بالمركزية المشرقية فالعرب يقصرون الأدب في حدود مصر والشام فقط وأدب شمال إفريقيا كان بالنسبة لهم شبه مجهول وأحيانا لا يلقون له بالا، وعزا أبوشناف ذلك إلى الطبيعة الليبية في الانكماش انطلاقا من المومياء الليبية(وان موهجاج)، وبالتالي ظل الليبيون حسب تقدير أبوشناف ينكمشون دائما على ذواتهم فلا يعبرون عن أنفسهم، ويرى أبو شناف أن مكمن الخلل في ذلك أن الليبي توهّم أنه لن يوصل إلا باعتراف العرب وتبنيهم، ودعا أبوشناف الأديب إلى ضرورة أن يشق طريقه بنفسه دون الالتفات للمركزية المشرقية مؤكدا على أن المبدع الليبي لن يكتب أدبا ولن ينتج فنا حقيقيا ما دام يحاول تكرار المشهد الأوروبي فالأجدر هو أن ينتج المبدع الليبي بناءً فنيا يحمل مضامين تعبر عن الهُوية الليبية وخصوصية مكوناتها الثقافية والتاريخية والاجتماعية.