النقد قراءات

دراسة حول قصص على الهواء ؛ الصادرة بمجلة العربي العدد 655 / يونيو 2013

قراءة وتحليل /سعاد الورفلي

Souad733@gmail.com

“القصة القصيرة مثل الحليب ذرة غبار تغيرها” كما قال الأديب والكاتب المصري عزت القمحاوي ؛ في دراسته لمجموعة قصص مختارة على الهواء ، وصدرت في مجلة العربي عدد655.

وقد أوعز القمحاوي هروب عدد كبير من الكتّاب إلى كتابة الرواية عوضا عن القصة القصيرة ؛ لرهافة هذا الفن وتأثره بأبسط الأشياء كما وصف آنفا .

ويقول القمحاوي : إن التعكير له عدة مصادر من بينها :

المستوى اللغوي (نحوا وصرفا وإملاء ) وعدم قدرة على الاستخدام السليم لعلامات الترقيم،  ومنها ما يأتي من البناء.

إلا أنه يشير أن أسوأ ” العكارة ” هي تلك التي تأتي من البراءة والرغبة في تغيير العالم ، مما يؤدي هذا المصدر إلى انزلاق القصة فيما أسماه بــ(مأزق الوعظ المباشر) وهذا غير مستحب في صميم تشكيل القص الفني .

وكتّاب القصة-كما وضح- قد يخفقون في كتابة قصة وينجحون في أخرى ؛ إذا ما طبقوا القواعد الفنية المشار إليها هنا في هذه اللمحة من الدراسة التي أشير إليها بأنها على الهواء وأذيعت على الـ(بي .بي.سي)العربية .

واستدلوا بقول “هيمنجواي” أنه كان يقول  لنفسه عندما تتعثر الكتابة (اكتب ما تعرفه جيدا)وقد اعتبرت هذه المقولة ” نصيحة يفترض بأي كاتب العمل بها .

ومعنى “ماتعرفه جيدا” يوضح المضامين الفنية التي ترشد الكاتب إلى :

1-أن يتناول المشهد بحيادية ؛ بل التظاهر بالحياد ويفسر الحياد قوله : إذ لاحياد في الفن ؛ لكن :

2- جعل قسط للقارئ في التفسير والاستنباط ، ماهو أبعد من الصورة التي يرسمها الكاتب .

وقد اوضح القمحتوي أحد أساليب قصة كانت مستبعدة ؛ نظرا للإغراق في الوصف حينما بدأ الكاتب قصته في وصوف مشاعر قطة قائلا: ” تجتر أحزانها في هدوء ” !!!

3-لايجب –أبدا- الإفراط في الأوصاف تفرض رؤية الكاتب على القارئ ، كأن يقول القاص عن بطله ” المسكين ” أو يحكم على العالم بــ”الظالم” مثلا

فالقمحاوي يشير على القاص أن يترك للقارئ دوره في التأويل ؛ لأن النص شركة بين كاتبه وقارئه ،طبقا لهذه المعايير كما يراها أساسية وعامة .

في قصة بعنوان : “سيمر من هنا نهر ” لمحمد الفخراني من مصر ؛ حللها القمحاوي على أسس قصص مختارة .

يقول القمحاوي “نقدم بطلا وعالما بين الحقيقة والخيال ، في رحلة تذكر بعجائب ألف ليلة وليلة ؛ وهي رحلة لم تحدث إلا في خيال المشّاء أو خيال الكاتب فحسب”

وقال ناقدا : “وكنتُ أتمنى ألا تبدأ هذه القصة الجميلة بهذه الجملة (رجل مشّاء يصاحب العالم ).

بعد هذا الاقتضاب السريع المختصر بإيجاز وتصرف ،لإحدى الدراسات النقدية ؛ فإنني وددتُ أن أضيف رؤيتي من جانب أنني (قارئة) لقصة ( سيمر من هنا نهر) لمحمد الفخراني .

بدأ الكاتب –الفخراني – قصته بــ(رجل مشّاء)والمشاء هو كثير المشي والسياحة والضرب في الأرض ؛ الإشارة التي أشار إليها القمحاوي أنه كره أن يبدأ الكاتب قصته بكلمة رجل مشاء ، لمحة تنحني منحنى أن الكاتب يجب أن يبتعد عن الأساليب الخبرية ، رؤية أعجبتني جدا ؛ لأنه أدخل بداية المضمون في حد تعريفي كأنه يقول : هو رجل مشاء ، جملة خبرية لمبتدأ محذوف .

التأكيد في قصته على أن هذا الرجل مشاء ؛ ورد في أكثر من معرض بسياقات تختلف لفظيا بعض الشيء إلا أنها تؤدي نفس الغرض ( كل الأماكن بالنسبة له صالحة للحياة –لم يشعر بضياع عندما وجد نفسه في صحراء بعيدة) ثم يوضح الكاتب وصف البعيدة رافضا بعد وصفها كذلك؛  فيقول ( من المناسب عدم وصف تلك الصحراء بالبعيدة – فالرجل يصاحب كل أماكن العالم وكائناته وبالنسبة له لايوجد في العالم مكان قريب وآخر بعيد ).

هذا قبس من بعض نصوصه في روايته التي أرى أن يعرج كثيرا على الشرح في التفاصيل .

التردد في فكرة الانفتاح؛ كثرة المشي، عدم الضياع ، الصحراء البعيدة ؛ كلها تكرر نفسها في المجال المفتوح ، الذي فتحه الكاتب وظل يفتح نفسه على نفسه دون إغلاق .

فكرة المشي مستمرة إلى أن يقف على المصدر الذي يبتعد كلما اقترب منه ، تذكرنا هذه المنعطفة بقصص الخرافات التي نحكيها جداتنا –لنا- تلك الصحراء التي يُسمع فيها أصوات عرس وأفراح ولاثمة من أحد.!

التضاد الذي أعجبني قوله (فيتجه لمنبع الصوت ويرى في مدى عينيه قرية صغيرة ، يتحرك سكانها من بعيد مثل ظلال متحمسة للحياة ، عندما يعاود المشي تخفتُ أصوات القرية شيئا فشيئا ؛ كلما اقترب منها ).

صورة فظيعة رهيبة ، كلما اقتربت انخفض الصوت . ماالذي يحدث ؟لكنه يُسعفنا بإجابة الحيرة التي ارتادتنا من هذا الموقف فيقول (لأن صدى الحياة هناك مازال يتردد حوله وداخله).

في لحظة وصول المشاء أو الرحال أو السائح –كيفما تأتّى- يتطلع المشاء للقرية الخاوية على عروشها ؛ ليكتشف –وقد ذكر الكاتب الفعل ” يكتشف ” معللا ( ليكتشف ) المفاجاة أنهم ليسوا إلا صخورا نحتها الهواء ، المطر ، الليل ..إلخ

كأنه يخبرنا أن العوامل الجوية والتضاريس نحتت قرية بسكانها ..ويقول ( حتى انه رأى آثارا واضحة لنهر مرّ من هنا ، أو لنهر سيمر من هنا )!

كرهتُ تكرار الكاتب لهذا ÷ فلو اكتفى بسياق واحد (لنهر سيمر من هنا )كان الوضع لائقا أكثر.

تتدخل الفلسفة والحيرة والارتياب في قصة الكاتب (المشاء رأى الحياة في القرية، وسمع الصخب ، وحدّث نفسه أن كل شيء ممكن في العالم ، إذن فن الممكن تدّخل في خيال الكاتب أيضا !

لكن التعارض أنه وجدهم آثارا متجمدة .

تتقلب عيناه بين سكان القرية ، تمنى لو يحدث أن يرحب به كائنٌ واحدٌ منهم ، قصة نسيان اسمه ” هو الذي عليه المشاء ” فالصور أمامه جامدة ، بينما كان يراها قبل الوصول حية .

التنين والطفلة الواقفة بجانبه (أسطورة التنين )تفاجانا بها في مؤخرة القصة

 لقطة موظفة توظيفا جيدا لإضفاء مزيد من الأسطورية على القصة .

واسمه الذي غادره بسهولة من الرهب رهبة اللحظة ، واستذكره بسرعة وهو يضع نفسه موضع المعرّف عن نفسه .

الهيبة القوية عندما صوّر المشاء وهو يضع قدميه في خطوة أولى ، دقات القلب التي بيّنَ أنه يسمعها ليست للقرية هي للحياة التي ستدب فيها ..بل هي دقات قلبه

انعكاس وارتباك وحيرة وتيه واعتقادات لمشاء في وضع خوف وقلق وضياع من شدة الموقف حتى أن دقات قلبه صار يسمعها تصدر من تلك القرية .

رأى القرية تنبض بنبضه.

عينا الطفلة التي تخيلها تنظر إليه ، ليست عيناها فقط بل كل القرية متجهة بنظرها إليه مركزة عليه.

الشخوص الجامدة ، الحيوانات ، كل ما في القرية تترقب حركاته –هكذا وقع في نفسه- مشيته ، هواجسه …..

في محاولة مخيفة ينقبض لها قلب القارئ ؛ المشّاء سيجازف للمس الجميع بأطراف أصابعه ….

صورة رائعة عندما وظّف الكاتب الصورة قال ( أن يلامسهم بأطراف أصابعه أثناء مروره بينهم ).

فلم يقل بيديه ؛لأن الذي يلمس الشيء بطرف أصبعه هو الخائف ، المترقب ، المشكك- هو فعلا – أحسن في وصف شعور إنسان مستغرب لشيء ما ، حائر خائف و مضطرب ( أن يلامسهم بأطراف أصابعه أثناء مروره بينهم ).

لمس ومرور لحظة استعداد لتوقع حدوث شيء ـلدرجة أن وضع صورتين منخيلتين ” طفلة تبتسم ، وتنين يحرك ذيله “.

اللحظة الأسطورية العميقة هي تلك التي تزايدت فيها دقات قلبه مع همسه للطفلة، وانحنائه ليعرفها بنفسه ؛ هنا انفتحت السماء بالمطر ، وتحركت القرية (هطل مطر جموح) مفاجئ قوي منهمر تدفق حياة مع الصورة الجامدة ..

أمطار جموحة (وصف بياني دقيق) شديدة ، متجهة نحو كل شيء ، البيادر ، الشوارع ، المنحوتات المتصدعة في الأرض ، القرية ، اكتسى الجمود الحياةَ ، ليس البشر وحدهم ؛ بل الشجر والحيوانات . انطلقت الصيحات –تلك التي سمعها في صحرائه البعيدة، قبل أن يقترب ويلج القرية –

الكاتب يبتعد بخياله كثيرا حدّ الأساطير ، قرية جامدة منحوتة كتماثيل عتيقة ، هطلت عليها الأمطار ؛ فتحركت الحياة !

قصة فيها مغازٍ كبيرة ، كأنما يتحدث عن السلام في آخر الأمة ؛ الأربعين التي ستمطر بعد جفاف القلوب وانشقاقها ويأسها عن عودة الأمل الذي مات في كل قلب . الرمز تحرك عندما هطلت الأمطار فتحركت الجوامد والموتى!

أول أمل له : وتمناه ( هو أن الطفلة تحركت وعرّفت بنفسها للمشاء ، وتنينها أطلق خيط نار في الهواء ) تخيله حسبما يصف( مرحبا به ) .

الخيال عميق في القصة ، ثم يقول ( تلونت القرية بألوان الحياة).

المدار الذي عليه القصة ؛ ان المطر ملأ مجرى النهر “الذي مرّ من هنا ، أو أنه النهر الذي سيمر من هنا “.

فاعتراضي على توالي السياقين “الجملتين” بتوقيتين زمانيين مختلفين..( مرّ) (أو سيمر ) كان مارا فنضب ..وتجددت الحياة فيه فسيمر من جديد .هذا هو العذر الذي التمِسه من تكرار السياقين رغم (السماجة والثقل على القصة ).

رسم صورة ذلك النهر الذي سيمر من هنا – من قلب القرية ظهرت الأسماك تتقافز ، صيادون بقوارب ، أغان ٍ ، وشباك للصيد.

عامل المفاجاة بدأ يذوب ويلتحم المشاء بالأحداث مع غياب الحيرة ..لاحظوا ذلك في نهاية القصة .

الطفلة أمسكت يد المشاء وصحبت تنينها ” صورة خيالية لتلك التي تأتي في خيال وأدب الأطفال .

قفزوا في قارب خشبي بسيط كان مركونا عند شاطئ  النهر ” كأنه يقول نهر الحياة “.

قفْلة القصة أو الخاتمة هي الرائعة والمثيرة ، أحببتها كثيرا وأثني عليها (الطفلة والتنين والمشاء ، تركوا أنفسهم للقارب ، والقارب ترك نفسه للنهر ، والنهر أطلق نفسه لشوارع القرية ، والقرية تمشي في العالم وتصاحبه )

مع الضغط على واو العطف والمعطوفات لكنها مؤدية للصورة .

المشاء ____والقرية تمشي في العالم .

 في الختام وبعد هذه الدراسة المستفيضة رغم أن هناك الكثير مما أودّ قوله ، لكن المقام يضيق على أن يكون في دراسات مقبلة –بإذن الله_

القصة فلسفية “فيها رمز المشائية ، والصوفية ، التوكل ، خيال المتصوفة متداخل في النهايات .

الوجه الأسطوري واضح أيضا في التنين ..والقرية المنحوتة من البشر.

وأخيرا ألفتُ أن القصة ذكرتني بقصة (قرزة الأسطورية )*

 ________________________________________

*مدينة (أثرية) تقع جنوب شرق مدينة بني وليد.

مقالات ذات علاقة

أهذا وجهي الذي أراه منعكسا في عينيك؟

المشرف العام

هذيانات مفتاح العلواني الشعرية: قسوة الواقع وحلم العناق..

المشرف العام

الفقيه: «50 ظلاً للرمادي» تعتمد على الشذوذ والعاهات النفسية

المشرف العام

اترك تعليق