لم يخطر في بالي أنني سأتشرف ذات مساء بقراءة نص حول الكاتبة والمحامية عزة كامل المقهور في مثل هذا الحضور الكريم والحفل البهيج وأن أحظى بحسن استماعكم وإنصاتكم إليّ. ولكن حين تلقيت دعوة كريمة من القاصة المبدعة لم أشأ أن أفوّت هذه المناسبة للمشاركة والتعبير عن الامتنان والشكر والدعاء بالتوفيق ومواصلة الدرب.
وحين فكرتُ في كتابة نصٍّ يَليق بمجموعة القصص القصيرة التي أبدعتها الأستاذة عزة كامل المقهور في إصداريها “فشلوم” و”ثلاثون قصة من مدينتي” عدتُ إلى المنبع الأصيل، النهر الدافق من العطاء، الفارس الذي طرّز القصة القصيرة في ليبيا على مدى عقود من الزمن. تجولتُ في إبداعات فضاء الراحل كامل حسن المقهور وعالَمِهِ القصصي وشخصياته الليبية وحواراته الممتعة، فاخترتُ أن يكون عنوان هذه القراءة القصيرة … “السلام على منصورة” … وهو عنوان إحدى قصصه القصيرة المنشورة في مجموعته (14 قصة من مدينتي).
هذا العنوان شدّني بخصوصية هويته، وتميزه الدلالي، وجاذبية التواصل معه بكل جوارح الإنسان المفعم بالحب والوفاء. “السلام على منصورة” أحسستُ أنه عنوانٌ يحمل رسالةَ سلامٍ ومحبة بدفء المشاعر، ولهفة الأشواق، ورمزية المعنى. فمنصورة التي يُقرؤها الأستاذ الراحل كامل حسن المقهور سلامَه قد تكون امرأةً بعينها، أو بطلةً صنعها من خياله الخلاب، وقد تكون أبعد من ذلك لتوحي بأنها موطناً وبلاداً اسمُها “ليبيا” عشقها حتى الثمالة، ونحن مثله نعشقُها ونقلقُ عليها وهي تئنُ من وجع وألم وأذى أولي القربى وأبناءها الأحبة. فعندما طالعني إلحاحَه وتوسلَهِ المكرر والمكلل بدرجة عالية من الاشتياق واللهفة وهو يقول (عاودلها يرحم والديك .. قوللها كيف حالك يا منصورة .. مشغول عليك يا منصورة) لم ترتسم في ذهني إلا صورةَ بلادي التي أحبَّها المبدعُ الراحل ونحبُّها جميعاً .. فله الرحمة، ولكم موفور الهناء في ظل ليبيا التي نطمح أن تكون.
قد يظنُ البعض أنني بهذا الاستهلال الماضوي قد أخطأت الزمان والمكان وموضوع المناسبة، أو الحدث الذي يتمثل في الاحتفاء بنصوص قصصية جديدة، صادرة حديثاً وليس معاودة أو مراجعة قصص قديمة، ولكنَّ تبريري هو أنني لا أستطيع أن أتجاوز الأصل إلى الفرع دون توجيه الثناء والعرفان لذاك الفارس الفذ، ولا أنْ أشيدَ بالوردة الجميلة الفّواحة العبقة، دون الإشادة بالمنبعِ الرقراقِ الذي روّاها، والغصنِ الذي حملها وهدهدها وقوّمها وزرع فيها قيمَ الخيرِ والحبِّ والوفاءِ، وبذورَ ملكةِ الإبداع الذي أفرز هذين الإصدارين وغيرهما من المقالات والخواطر المنشورة وغير المنشورة.
أما عن علاقتي مع الكتاب الأول “فشلوم” الذي شرفتني الأستاذة عزة كامل المقهور بنشر جزء قصير من دراسة مطولة ظهرت لي في كتاب مستقل بعنوان (ثورة فبراير في الأدب الليبي … قصص عزة كامل المقهور نموذجاً) صدر عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني لا أدري حقيقة كيف نُسجت؟، ولكنني لأزلت أتذكر جيداً أننا كنا نتواصل عبر السكايب في حوارات طرابلسية كندية إبان مجريات القتال الدائر خلال ثورة 17 فبراير، ثم جمعتُ القصص العشرة التي كانت تنشرها الأستاذة عزة كامل المقهور آنذاك على شبكة الإنترنت، وظللتُ أعيدُ مطالعتها مرة أولى وثانية وثالثة وأدون ملاحظاتي عليها، ثم خطر لي في شهر ديسمبر 2011، وقبل أن تستكمل قصتَها “ميدان الشهداء” أن أسجلَّ انطباعاتي عنها، فبدأتُ الكتابة بعد ترتيبها وفق تسلسلها الزمني، الذي فاجأني بأن الأستاذة عزة كامل المقهور أنجزت تسعة من القصص العشرة خلال أربعة أشهر ونصف، بداية من قصة “فاطمة” التي نشرت بتاريخ 10/5/2011 وحتى قصة “أولاد السوق” التي نشرت بتاريخ 25/8/2011 ثم أنهت العشرية بقصة “ميدان الشهداء” بتاريخ 17 فبراير 2012.
وبلا شك فإن إنتاجها القصصي أثناء تلك المدة جدير بوصفه بالغزارة القوية المفاجأة، باعتبار أن القاصَّ الهاويَ غيرَ المتفرغ حين يكتبُ ثلاثةَ أو أربعةَ قصص في السنةِ الواحدة يعد ذلك إنجازاً كبيراً، وأمراً يدعو إلى الانتباه إلى إنتاجه، فما بالك بكتابة ونشر عشرة نصوص خلال أشهر قليلة. كما لاحظت في تلك العشرية أيضاً أن القاصة أنتجت مرتين ثلاثة قصص خلال شهر واحد (فاطمة، يا نا علي، فشلوم) في شهر مايو، و(ربيع الزاوية، شارع الصريم، أولاد السوق) في شهر أغسطس. بل نشرت أكثر من قصة خلال أسبوع واحد (يا نا علي، فشلوم) خلال يومي 26،28/5/2011 و(شارع الصريم، أولاد السوق) خلال يومي 21،25/8/2011 .
وإذا كان هذا كله يدعو إلى الإعجاب والثناء والإشادة، فإن الأكثر من ذلك والذي أسعدني كثيراً هو قيام صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بترجمة قصتها “شارع الصريم” ونشرها على صفحاتها بتاريخ 23 أغسطس 2011 تحت عنوان Libya’s Bloody Road to Freedom محققةً تصنيفاً متقدماً من قراء الصحيفة الدولية الواسعة الانتشار، وسعادتي الغامرة مبعثها إيماني المطلق بأننا في حاجة ماسة إلى التواصل مع العالم للتعريف بإنتاجنا الأدبي والثقافي وإبراز مساهماتنا في الحياة الفكرية كافة.
لا أدّعي أنني أملك مقدرة على تفكيك بنيوية النص القصصي تقنياً باستخدام أساليب ومدارس الأسلوبية والنقود المنهجية المتخصصة، ولكنني أؤمن بأن النص الأدبي بأجناسه المختلفة يصبح إثر نشره ملكاً للقارئ وحده، وليس لمبدعه أو مؤلفه، الذي يتحول مباشرة من مبدع له إلى مراقب أو متابع لجملة التفاعلات التي يحدثها عمله الإبداعي، والنقود التي توجه إليه. ولذلك يصبح القارئ، دون غيره، هو المصدر الوحيد لإطلاق عمليات تشريح وتحليل النص، وتأويله وتفسيره وفقاً لإمكانياته الفكرية وأدواته الفنية.
ولذا فإنني بعد قراءة متأنية واستعراض للعشرية القصصية للأستاذة عزة كامل المقهور لاحظت أن كيانها القصصي يستجيب تماماً للمعاني والمضامين الإنسانية التي تناولتها متمثلة في تسجيلها مجموعة شهادات قيمة للزمان والمكان والإنسان، وتوثيقها العديد من صور البطولة المشرّفة التي ظهرت خلال ثورة السابع عشر من فبراير في مدن وبلدات موزعة جغرافياًَ على امتداد ليبيا الحبيبة. حيث نقلت العديد من الوقائع وحفظت أعلام وشخصيات ثورة فبراير التي ساهمت بفاعلية في هذه الملحمة الثورية الرائعة، كما صدحت نصوصها بالتكبيرات الدينية المتعالية والهتافات الوطنية المدوية، وكذلك من خلالها نتعرف على بعض الأبطال رمزاً أو بأسمائها الحقيقية مثل “فاطمة” والشهيد “عماد زكري” ومشهد والدته المؤثر الحاجة “أم السعد عيسى المقدمي”، والشاعر الأسير “ربيع شرير”، والشهيد الشيخ “محمد المدني”، والشهيد “علي طلحة” والشهيد “عبدالعاطي قدور” ووالده الشيخ “علي قدور”. وأيضاً أسماء المدن والأمكنة والشوارع والأزقة والأحياء، والسيارات، والأغاني، والحرف، والمهن، وأنواع الأسماك، والنباتات، والتعابير الشعبية، والزوايا الصوفية. إضافة إلى كل ذلك، فهي كانت سباقة في اقتباسها كلمة أمازيغية وهي “يادج” واستعمالها عنواناً لإحدى قصصها القصيرة، وتضمينها ثلاثةً من المفردات الأمازيغية الأخرى.
وهناك جانب آخر لا يمكن إغفاله ولا يقل أهمية عمّا سلف، وهو أن هذه الأعمال القصصية تبرز مساهمة الأديب الليبي سواء كان قاصاً أو شاعراً أو فناناً أو كاتباً في مجريات ثورة فبراير، ودوره في التواصل مع الحدث الوطني والمشاركة فيه بأدواته الفنية والمهنية الخاصة.
أما إذا عرفنا أن معظم نصوص العشرية القصصية للأستاذة عزة كامل المقهور قد كتبت خارج ليبيا فإن هذا يعزز ثقتنا في قدرة الأديب الليبي على توظيف الغربة الجسدية عن أرض الوطن واستثمارها من أجل الوطن ذاته، والاطمئنان على أنه باستطاعته التغلب على الكثير من صعوباتها النفسية وهواجسها الداخلية، التي ليس أقلها حالة القلق الشخصي على مصير الأهل والأحباب، والانشغال الدائم بمتابعة مجريات الأحداث رغم فارق توقيتها الزمني وصعوبة وانقطاع الاتصال الهاتفي والتواصل الشبكي وغيرها.
أما علاقتي بالكتاب الثاني للأستاذة عزة كامل المقهور “ثلاثون قصة من مدينتي” الذي أهدته إلى روح والدها المرحوم كامل حسن المقهور فقد تفاجأت بأنها أسكنتني نصها الثاني فيه حين أهدتني قصتها “الدرجيحة” وهي بذلك أعادتني طفلاً مشاكساً يلهو ويركض ويلعب تحت أشجار “الزيتون” أو “التوت” أو “السبّاحي” في إحدى سواني سوق الجمعة الخلابة، ويتشارك مع أطفال العائلة والجيران في تمضية سويعات مرح طفولية يتعلقون بقطع حبال متينة مربوطة في إحدى أشجار السانية تحت ركن ظليل، فيتدلون بها في الهواء، يسابقون الريح بأرجلهم القصيرة، ويطيرون بأجسادهم الطرية اليافعة في الفضاء محلقين بأحلامهم البسيطة التي يزرعونها في سماوات الغيب، وينثرون ضحكاتهم لمشاكسة الآتي بروح الحاضر البريئة.
وإذا كان لقصة “الدرجيحة” امتنان خاص وحضور باذخ في وجداني فإن قصص الأستاذة عزة كامل المقهور “هدرزة سقيفة” و”المربوعة” و”عمي الهاشمي” و”خبزة حوش” و”النفة” و”القفة” و”البشكليطة” و”خُليطة” و”سعدية” و”السنفاز” وأخيراً “شُطي بُطي” تستهويني بانتقائية شخصياتها ومواضيعها وعناوينها الجذابة، وكذلك بجمالية سردها وروايتها، ولغتها البسيطة المكللة بتناغم شعري آخاذ تبعثه موسيقى خفية غير ظاهرة، وتعبيرات رقيقة هادئة مطرزة بكلمات رنانة من اللهجة الطرابلسية. كما أنها تبهرني بصورها البلاغية المنمقة، ودقة تفاصيلها التي يبدو أنها تغوص وتنقب في خزانة ذاكرة لم يقترب منها الصدأ أو يطالها الوهن أو الكسل، فتنهل وتقطف منها، لتختار ما ينعشنا ويزرع في أعماق قلوبنا بهجة، ويدير محركات عقولنا نحو معاني نبيلة سامية تكابد حاضراً قاسياً من أجل صمودها واستمراريتها، وترسم على شفاهنا ابتسامات صادقة كثيراً ما نحتاجها في أوقاتنا العابسة.
وحين يخطر لي أن أقارن هذه النماذج القصصية مع نصوص فارس القصة القصيرة الراحل كامل حسن المقهور مثل “موت سعد البكوش” و”كاتارينا” و”بوخة” و”السلام على منصورة” و”الأمس المشنوق” و”عمار اللي شدوه” و”الشارع الفوقي” و”حكاية ميلود وروبينه” وغيرها من الإبداعات القصصية، فمن الطبيعي أن أجد تفاوتاً كبيراً بينها، لعل أهمه أن نصوص الأستاذة عزة كامل المقهور كتبت بأنفاس أنثوية مرهفة، تختلف كثيراً عما أبدعه الراحل والدها، ولغةٍ سلسة تتناغم مفرداتها بشكل مترابط لتواكب نسق واقع الحياة المعاصرة التي غاب عنها، وأفكارٍ عصرية تنهج مبدأ استحضار صور الماضي لتوثيق وقائع وشخصيات المكان والزمان الغابرين في حاضرنا. ويظل أبرز سمات نصوصها القصصية أنها لم تعتمد تقنية الحوار بين شخصياتها لشد وتشويق القاريء، بل اعتمدت على قاموسها الوصفي الثري، وأسلوبها السردي المميز في الحكي والرواية وتمكنت بكل اقتدار من تولى هذه المهمة الشاقة، وهي سمة أراها تصّعب عمل القاصة وذلك لما يمنحه الحوار من تفاعل كبير بين المتلقي وكاتب القصة وشخصياتها يعول عليه كثيراً في انسيابية نقل فكرة القصة وإيصالها للقاريء.
أخيراً إن هذين الإصدارين “فشلوم” و”ثلاثون قصة من مدينتي” المحتفى بهما للأستاذة عزة كامل المقهور، وغيرهما من النصوص القصصية لقاصات ليبيات أخريات، لهو دلالة على أن الدرب الذي خطته رائدة القصة القصيرة الليبية الراحلة “زعيمة سليمان الباروني” سنة 1958 حين أصدرت “القصص القومي” كأول مجموعة قصصية لأديبة ليبية قد أثمر إبداعاً، وتواصل عطاءً، لتبرهن به المرأة الليبية أنها قادرة على المساهمة في المجال الأدبي والقصصي، وتأكيد دورها الفعال في المجتمع الليبي بشكل عام، فهنيئاً لنا بها، ومزيداً من الإبداعات للأستاذة عزة كامل المقهور وغيرها من الأديبات الفضليات.
___________________________________________________________
* ألقيت بمناسبة حفل توقيع الأستاذة عزة كامل المقهور كتابيها “فشلوم” و”30 قصة من مدينتي” بتاريخ 7 سبتمبر 2013 بدار الفقيه حسن بطرابلس