أحمد الفيتوري
1-
أذكر أني قرأت رواية لكاتب فلسطيني عالمها «الفيس بوك». مما تبقى في الذاكرة المثقوبة، أن شاباً في مقتبل العمر، يقيم في فلسطين المحتلة، شده حنين غامض إلى عمته التي لا يعرف، من تعيش في الضفة الشرقية/الأردن منذ النكسة!. واجهته السلطة المحتلة الفاشية بإجراءات معقدة لا حصر لها، حتى حصل على إذن باجتياز «جسرالكرامة» الذي يبعد عن عمان 65 كلم. في أيامه القليلة التي قضاها في عمان أغرم ببنت عمته الصغيرة الجميلة، تحت إلحاحه وبدافع محبة العمة تزوج حبيبته.
بعد أيام عاد إلى بيته على أمل العودة بحبيبته، بعد أن يحصل على إذن من دولة الاحتلال، لكن هيهات، فجسر العودة من رابع المستحيلات، هكذا قضى سنوات يحاول حتى تفكك خيط الأمل. فتزوج على كبر، وأنجب أطفالا كلهم ذكور، ومن ثم دفنت حبيبته -التي أنجبت ابنة- في دهاليز الذاكرة المحاصرة.
فتح دكاناً بالجامعة التي قرب بيته لطباعة بحوث وأوراق الأساتذة والطلبة، هكذا تكونت علاقته بالكمبيوتر والإنترنت في جو طلابي، وكل ما شاهد طالبة أخذ يتصور أنها في عمر ابنته التي لا يعرف، بعد أن انقطعت به السبل. مع ظهور الفيس بوك انغمس فيه كالتسلية الوحيدة المتوفرة له من عمله طول النهار، خلال ذلك وجد نفسه في اتصال مضطرد مع طلبة الجامعة بخاصة الفتيات منهم، دون شعور منه، كل طالبة يصادقها على صفحته هي ابنته، وفي مرة سألته إحداهن عن قصته، الفتاة عادت بعد أيام لتقدم له هدية صفحة ابنته على الفيس. الرواية تكنيكاً مبنية كما صفحة على الفيس بوك، أما الصفحة فكانت كما «جسر الكرامة» الافتراضي، ما أعاد له ابنته افتراضياً من الشتات، ما تبقى مهمته الرئيسة.
2-
فلسطين كانت حضوراً سخياً لكن في الماضي أو المستقبل، أي تبدو كتاريخ أو حلم، أما اليوم فهي مغيبة في وجود غير متحقق لدولة دينية يهودية، دولة وجودها مشتت باعتبار أنها صنيعة شتات ومحفل لبشر أيديولوجيتهم لا معقولة وجلهم حامل لجنسية أخرى، ومن هذا فلسطين تتجلى كمشروع مقاومة صامد، فجنسية ليس منها بدّ، بيد أنه مثل كل فعل مقاوم، جبل لا تهزه الرياح، لكن في نفس الوقت مركب ترفعه موجة وتنزله أخرى. هذه الحقائق الدامغة تسطع في اللحظة الاستثانئية عند منعطف تاريخي، كما هو العصر السبراني ما حساباته غير حسابات التاريخ، فالعالم اليوم عالم كوني كل ما فيه يتمظهر في صورة الزوال، في حين الآتي غائم أو لا ملامح له بعد.
ما بعد 7 أكتوبر 2023 ينتمي للعصر السبراني، فقد كان معركة تقنية لا يمثلها فحسب السور الإسرائيلي ما يأسر غزة، بل ثمة أيقونة فلسطينية الصنع تمثلت في المروحيات التي نقلت الفدائيين فوق السور وغير ذلك، وكذلك من الحشود الداعمة لفلسطين في العالم بخاصة في أميركا والغرب، التي تلقت الحقيقة مباشرة، كما لم يحدث قبل عبر الإنترنت ومنه السوشيال ميديا، ثم الوجود الفلسطيني في الشتات ما تمرس في الغرب، من مكنته السبرانية من الفعل وتخطي الأسوار والحواجز التقليدية.
هذا ترادف مع نقلة نوعية في بنية الوجود الفلسطيني المرهون دائماً للخارج، حيث من الداخل جاء يسعى «طوفان الأقصى»، ما مثل نقلة نوعية قاعدتها غزة فالضفة الغربية، ما تبقى عند الفلسطنيين من فلسطين. وما يبين نوعية هذه النقلة هو رد الفعل على هكذا فعل/المتغير الاستراتيجي/الجو سياسي.
مما جعل إسرائيل ومن أوجدها/ الغرب يتحدثون عن أن ما حدث في أكتوبر 2023 مس الوجود الإسرائيلي، فجاء رد الفعل من أميركا أولا ثم حلفائها غير اعتيادي، أما حرب الإبادة، التي لا مثيل لها، تمارسها إسرائيل بدعم غاضب من «بايدن» حتى كاد يقود مجلس الحرب في القدس. حرب الإبادة هذه ليس حدها «السن بالسن والبادئي أظلم» كما قانون العقاب التوراتي، بل ما يشبه استراتيجيا «الأرض المحروقة» التي مارستها الولايات المتحدة في فيتنام؟ مع زيادة عند التطبيق من التراث الصهيوني النازي.
هذا التحول الجذري من جذوره أن العالم بات في الكف كما موبايل، مما مثل «جسر العودة» بين فلسطين والفلسطينيين في الشتات، «جسر العودة» الذي جعلته «منظمة التحرير الفلسطينية» كما شعار، صار في العصر السبراني جسراً افتراضياً، اتخذه فلسطينيو الشتات معبراً وتجسيراً للعلاقة بالآخرين حيث هم، فكانوا قلب المظاهرات التي عمت العالم الذي شاهد سكانه بأم أعينهم يوميات حرب الإبادة، ما ربط بالمعنى الحقيقي للدولة الصهيونية. وهذا التحول الافتراضي ارتبط بقوة بالتحول الفعلي لمعنى فعل صامد الفلسطيني، فالمقاومة الجسورة لـ«حماس» وفصائل المقاومة الأخرى، التي جعلت «معركة الكرامة» تطول لشهور وعلى الأرض المحتلة، فيما الشعب الفلسطيني كان يدفع ثمناً غالياً وبما هو غير مسبوق لذا التحول.
إذن فلسطين ما بعد «طوفان الأقصى» ليست فلسطين ما قبل. ففلسطين الساعة معركة، يخوضها الفلسطينيون كما لم يخوضوا معركة من معاركهم، التي تجاوزت في الزمان القرن منذ وعد بلفور، وفي المكان حيث بالإمكان. وهم في ذلك جعلوا من أسطورة «العنقاء» واقعاً ملموساً، حيث تبين أن ليس بالإمكان دفن فلسطين التي أمواتها يمنحونها الحياة، ليس مجازاً بل عبر جسر الحياة، ما يتمثل في أن الجيل التالي أكثر إبداعاً، فكل جيل شعاره «أن بالإمكان أبدع مما كان»: الآن «قطاع غزة»، فالضفة الغربية رديفه المستبعد من الأضواء، المحاصران يخوضان معركة بالثمن الباهظ، ما يربك العالم.
فتكون فلسطين رقماً مميزاً في الانتخابات الأميركية، كما في العلائق الدولية في موسكو وكييف وبكين وتايبيه، وفي عواصم الاتحاد الأوروبي التي منعت التظاهر لدعم فلسطين. أما في الإقليم فالحرب امتدت من صنعاء مرورا ببغداد ودمشق حتى بيروت، وزلزلت عواصم من طهران مروراً بأنقرة حتى الجزائر والرباط، أما دول الجوار فقد طالها الخطر، حيث يهددها الطوفان بأن تكون أرض التهجير لمن لم تطلهم الإبادة.
فلسطين اليوم أفق مفتوح لا توقعات يمكنها محاصرته، فلقد انفلت من زمام السياسة والعسكرة إلى أفق المسألة الإنسانية، بثمن عبرت جنوب أفريقيا عن فداحته، كملدوغ من نفس الفاشيين البيض العنصريين، وهذا الانفكاك يحصل في عصر لم تتصوره البشرية حتى في خيالها العلمي، مرادفه التحول الفلسطيني: بهت الذين كفروا!، من غرقوا في الدم الفلسطيني الحقيقي، ما غمر أيضا العالم الافتراضي كدم مقاوم صامد.
بوابة الوسط | 20 فبراير 2024م.