انتبه، ذات يوم، (قياد أحوال مسيحي) أن أحد (المصلين) لا يبكي مع الباكيين عند سماع موعظة يوم الأحد، فسأله عن السبب؟ أجابه متبسما: “أنا لست من مذهب هذه الكنيسة!! وكنيستي بعيدة عن هنا. فأنا هنا من أجل الصلاة فقط!!” وهكذا تأكد لي أن (تسكير الرأس) ليس سلوك تركي فقط، وبالطبع نحن نعرف إرثنا الكبير منه!. فللمسيحية مذاهبها، وأيضا لليهودية؛ بل ولهما صراعتهما وكثيرا ما أوصلتهما حد الحروب. والمذاهب الإسلامية كثيرة، ولكن خلافاتها ليست جوهرية تماما، فكلها توحد الله وترى أن القرآن هو مرجعها، وأن محمد، صلى الله عليه وسلم، هو رسول الله. قد يكون هناك اختلافات في تأسيس دول وحكومات، فتستمد أساليب الحكم من أحكام مذاهبها، سواء بالنقاش أو بالإقناع، أو ببذل المال، أو الترغيب بالمناصب. وهذه سبل يتراء لي انها مقبولة، ولكن سل السيوف والإطاحة بالرقاب، يقفل باب النقاش، ويقفل، أيضا، العقول، فلا يسمع الرأي الآخر. واعترف أنه أثناء نقاش، غير متكافئ، بيني وبين صديق عن أحوال ديننا الحنيف، انتبهت أن الله فتح عليه ابواب العلم من اوسعها، واكتشفت، في الوقت نفسه، أنني نصف أمي! جاهل بالكثير من أمور ديننا، الذي أعرف يقينا أنه الحق، وأنه صالح لكل زمان ومكان، خصوصا بعدما قرأت الكثير عن الأديان الأخرى. وخلاصة النقاش، أكدت لي أنني لا أعرف إلاّ القشور عن المذاهب الإسلامية الأخرى، فأنا سني مالكي، مثل بقية أبناء وطني، فليبيا قد تكون كلها سنية مالكية، وإن كانت هناك قلة اباضية المذهب. وأعرف أيضا أن الاباضيين يتفقون مع اهل السنة في مصادر العقيدة : القرآن والسنة، والرأي والإجماع ويتفقون ايضا، مع مذاهب أخرى في رفض فكرة أن تكون الإمامة من (قريش) فقط، أي أنها مقتصرة على العرب دون سواهم.
والمذهب الاباضي، قوى واستقر في عُمان، وكان له دور بارز في التصدي لغزوات البرتغاليون على تلك الثغور، ثم ظهر في شمال افريقيا، وتأسست دولة اباضية هي الدولة الرستمية، التي امتدت اراضيها من طرابلس الغرب شرقا حتى تلسمان غربا، وبذلك تكون قد ضمت ليبيا، تونس والجزائر، وكانت عاصمتها (تاهرت) ومؤسسها عبد الرحمن بن رستم، وهو فارسي الأصل. تميزت دولته بالأمن والامان والرخاء، ولما وصلت سيرته الحسنة مسلمي الشرق، جمعوا له أموالا عظيمة، وبعثوا بها ثقاة سألوهم أن يتأكدوا منه ويسلموه الأموال، وعندما وصل الوفد مشارف (تاهرت) دلوهم على الإمام، فوجدوه على سطح داره، يناوله صبيه طينا معجونا يسد به شقوق سقفه. نزل لهم مرحبا، وغسل يديه. وعندما حانت الصلاة امهم، وطلب الأكل، فأحضر له صبيه الفطير والسمن والملح، فأكلوا ثم سألهم حاجتهم، فاخبروه عن هدفهم، إذ لم تعد ثمة حاجة للتأكد من نزاهته، فطلب من صبيه أن يجمع شيوخ القبائل لصلاة العصر، وبعد الصلاة اخبر الناس بالأمر، وسألهم الرأي ، فأشاروا أن يقسم المال على ثلاثة: ثلث للخيل، وثلث للسلاح، وثلث يوزع على الفقراء والضعفاء. احضر الوفد له المال، فقسمه أمامهم، بحسب ما أتفق الناس عليه !. وقد انتعشت البلاد كثيرا، وعمها الرخاء في عهده، وصارت قبلة لمن ينشدون الأمن والأمان، والاستقرار، ويقال أن ديارها كثرت، وصار الناس يشيرون إليها: هذه الدار للكوفي، وتلك للمصري، وهذا مسجد البغداديين، وذلك للبصريين.
بعد قراءة هذه القصة، شردت قليلا، ثم عدت إلى واقعنا الضبابي، متسائلا: هل ينقصنا رستم؟ أم رعية كرعيته؟ لم اجد جوابا، فهل بمقدوركم أنت تجيبوني؟
19/1/2014
تعليق واحد
مقالة رائعة فيها فكرة تاريخية لتأسيس دولة تقوم على النزاهة