هكذا صاح الشابي ذات يوم قبل تسعين عاما وهو لم يتخط العشرين ربيعا.
وباستثناء قصيد إرادة الحياة الشهير لم تجد سوى قصائد قليلة من تركة الشابي الثرية طريقها إلى أذهان طلابنا، حتى أولئك الذين وصلوا إلى مستويات عالية من التعليم..
ربما الأمر المؤثر لدى شعراء القرن العشرين البارزين هو نغمتهم النبوية، ذلك العهد للشعراء ذوي النظرة الكونية الذي سيطر عليه أصحاب الرؤى أمثال جبران والشابي والسياب والرقيعي والخوري والذي لا يزال إغراؤه ماثلا أكثر من السابق، هذا السحر استبدلت به اليوم في الواقع عبودية الخراب التام.
هؤلاء المجددون هم الذين يشكلون حلقات السلسلة العظيمة للأدب والإبداع الخلاق، هو ذلك العصر الذهبي المفقود، أيام كانت الحياة حفلة تتفتح فيها كل القلوب وتتدفق فيها كل أنبذة الروح لتضرم النار في العروق للثورة على الواقع الوحشي متتبعين في مسير شاق وهج تلك الكلمة الخارقة، (الحرية).
كان الشاعر أول من يصل، إنها فترة الاتصال بالنفس، فترة التشوف الخارق إلى المجهول والتغيير، لا التربص..
الشعوب تصنع أقدارها إن أرادت، وإن فكرة انتظار المُخلّص مرفوضة لدى هؤلاء العظماء، وهي ليست أكثر من فكرة راديكالية عتيقة تشبثت في عمق العقل العربي منذ أن زرع الساسة في الأذهان فكرة المهدي وخروجه الموعود ذات يوم ليقود الحملة العظيمة لتطهير الأرض والقضاء على الشرور والأشرار.
لقد انتصر الشابي والسياب وجبران والرقيعي الشاعر الليبي العظيم الذي لا يعرفه الكثير حتى من ابناء جلدته على جحيمهم الخاص أول من انتصر. ولقد نضب نبع إلهامهم واكتمل، ولم يبق عندهم إلا نداء الماوراء في الشهور الأخيرة من أعمارهم القصيرة، نداء الأعماق، وسكبوا ما سكبوا ثم رحلوا سراعا..
وعلى المرء أن يبدأ حقا عند الآفاق التي انتهوا إليها، لكنّ شعراءنا المتأخرين (باستثناء قلة قليلة جدا) يسكنون أعماق الغابة السوداء، وكما سبق القول سحر ذلك العصر الذهبي استبدلت به اليوم في الواقع عبودية الخراب التام..