عجيب أمر هذه الأمة التي يتنزّل عليها الوحيّ، ويتحمّل نبيّها الكريم مشاق ومعاناة الرحلة الأبدية الطويلة من أجل أن تكون خير أمة أخرجت للناس. وتكون لها السّيادة والرّيادة، والفضل في نفع البشريّة، وهي مسؤولة مكلّفة بفعل (القراءة). تلك القراءة التي تختلف عن قراءة الرسائل القصيرة على أجهزة الهواتف الذكية، أو المتخلّفة على حد سواء ولا عبر المسنجر والوات ساب أو تويتر.
إنّها قراءة تتعدى حدود تهجيّة الحروف، أو النطق بالكلمات نطقا غير مفهوم، ولعلّ الذين شرحوا للناس معنى هذه الآية من سورة العلق قوله تعالى (اقرأ باسم ربّك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان مالم يعلم) الآية5. لعلّ الشارح اكتفى بتوصيل فكرة القراءة التي نتداولها بتلقائية عادية للتعامل مع الحروف والكلمات والجمل.
إن دعوة القراءة التي يتضمنها فعل (اقرأ) في صياغة الأمر تستدعي منّا التساؤل عن معنى القراءة. ونحن نستند في ذلك إلى خاصية الأصل والفرع في اللغة.
إنّ فعل القراءة سابق لفعل الكتابة عند العامة، وفعل القراءة صانع لفعل الكتابة عند الكتاب والعلماء، والمفكرين والمبدعين. ولكن للأسف ما زلنا رهن واقع قرائيّ ضحل بائس يتوقف نبضه عند تلك القراءات التي سبقنا إليها الرّعيل الأول ممن فهموا القراءة على قدر فهمهم وعلى قدر بساطتهم، وحسب الظروف التي مرّوا بها.
ومأساتنا الآن في هذا العصر المتطوّر الذي يعجّ بالمبتكرات والمخترعات التكنولوجية مازال الواحد منا يقرأ كتاب ربّه مرّة واحدة في الأسبوع، أو مرّة في العام من رمضان إلى رمضان، أو مرّة واحدة في العمر، ولا يفقه ما يقرأ من الكلمات والآيات. أليس عجيب ذلك إذا كان الكثير ممن يحملون الشهادات العليا لا يحسنون نطق كلمة سليمة في حالة تعبّدهم؟ أليس من المخزي أن يكون في عصرنا التواصليّ الرّهيب تفريخ تلك القنوات الإعلامية الفضائية (الدكاكين التجارية) لكل قناة مفتي يهرف بما لا يعرف إلا ما رحم ربّك.؟
نحن أيّها السادة الذين يحمل همّ القراءة الواعية التي فيها يولد الفكر ومنها يكون الاستشراف في جميع المجالات المعرفية، والثقافية والفكرية والفنية. لقد أخطأ من أطلق على هذه الأمة أمة اقرأ، وهي تغرق في حلكة جهلها الأبدي في كل عواصمها التكنولوجية الراقية، والمتخلّفة.
إنّ هزيمتنا الكبرى اليوم أنّنا تحوّلنا جميعا من متعلمين وغير متعلمين إلى حالة واحدة وهي حال تقنيّة محضة نعرف كيف نستخدم الأجهزة التواصلية، ولا نصنعها، وإذا تعطّلت بين أيدينا لا نستطيع إصلاحها، وتلك حالة بؤسنا، فسلام على أمة تقرأ، وإن قرأت لا تعي ما تقرأ. كل عام وأنتم بخير.