قصة

“سباك” يبيع الكلمات بضمير مرتاح..

من أعمال التشكيلي الليبي محمد الخروبي
من أعمال التشكيلي الليبي محمد الخروبي

البارحة صحوت من النوم فجأة.. الساعة لم تتجاوز الثالثة.. وكنت قد نسيت إطفاء ضوء الغرفة بسبب استغراقي طوال مساء الأمس في قراءة رواية الجريمة والعقاب للمرة الألف.. مر صرصار من الحجم الكبير فوق بلاط الغرفة العاري بجانب الفراش الذي اضطجع عليه.. بعين مغلقة واخرى نصف مفتوحة أمسكت الكتاب السميك من أحد أطرافه وهويت به على المخلوق المقزز حتى سمعت صوت تكسر اعضائه.. شكرا “فيودور دوستويفسكي ” مرة من أجل جمال الحدوثة ذات النبرة الأخلاقية العالية التي اتحفتنا بها.. ومرة لأنك أطلت وأطنبت في سرد الحدوثة حتى صارت أداة ناجعة لسحق الحشرات المزعجة..

صرصار مثله ألهم كافكا رواية عظيمة.. كما ألهمت تفاحة ناضجة نيوتن لاستنباط قانون الجاذبية..

بعد أن أنجزت عملية القتل بنجاح تذكرت على نحو غامض أنني قد انخرطت في كتابة قصة قصيرة أثناء نومي.. كانت قصة جيدة بحسب ما أتصور لكني للأسف نسيت تفاصيلها ونسيت موضوعها من أساسه.. على أية حال المؤكد أنها لم تكن لتجد طريقها إلى النشر في مطبوعة أدبية مرموقة او غير مرموقة وحتى ان نشرت فلن يحفل بها أحد كعشرات غيرها..

منذ أن توقفت عن تعاطي “البوخه” بعد حادثة تسميمها قبل سنوات من قبل متطرفين كما قيل يومها.. صارت كتابة القصص الخيالية إدماني أو لنقل علاجي البديل.. أول مرة كانت مجرد تدوين مع بعض التحريف لحكاية غريبة سمعتها من قريبتي العجوز عن شاب وفتاة من منطقتنا ارتبطا ستينيات القرن الماضي بعلاقة حب لكن النصيب وارادة العائلتين حالا دون زواجهما.. عاشا عازبين نصف قرن وفي اليوم الذي توفي فيه رمضان بحادث سير توفيت صالحة بعده بساعات قليلة بلا أسباب ظاهرة.. لقد بدأت الكتابة في منتصف الثلاثين من عمري تحت تأثير هذه التراجيديا العاطفية التي لا يتحدث عنها أهالي حينا الا همسا وعلى أضيق نطاق، وشجعني صديق مهووس بقصص الحب على نشرها في صفحتي بالفيس بوك.. ومن ثم ارسالها الى صحيفة محلية مغمورة.. منذ ذلك الحين اعتنقت سبيل السرد المكتوب.. وأصبحت ضيفا شبه مقيم لدى الصحف والمجلات التي يتضاحك محرروها لمداومتي واصراري العجيب على إحضار نسخ ورقية وإلكترونية لقصصي بالرغم من عدم نشرها في مطبوعاتهم إلا ما ندر..

أهملت مهنتي الاساسية كسباك مختص بتسليك بالوعات المجاري وتبعت أحلامي كما ينصح باولو كويلو في رواية الخيميائي لكن ذلك كان دون جدوى.. ذات يوم أمام مقر إحدى الصحف تعثرت بي سيدة جميلة أشفقت على حالي وعرضت علي شراء ما بحوزتي من كتابات وقصص.. ترددت للحظات فقد كان العرض صادما ومباشرا لا مواربة فيه.. أن أتنازل على كلماتي وبنات أفكاري لشخص آخر ليضع عليها اسمه مقابل مبلغ من المال.. للوهلة الأولى خالجني شعور من يوشك على بيع نفسه في سوق نخاسة.. لكنني بعد قليل فكرت: أليس ما يهم في النهاية أن تنشر كلماتي وأن يقرأها من يقدرون قيمتها.. أنا نكرة لا املك علاقات ولا معارف ولن يلتفت أحد إلى ما اكتب.. أما هذه السيدة فتبدو معروفة وذات شأن.. وفي النهاية كسب المال من كتابة حكايات خيالية لا تقترن بإسمي الذي لا يعرفه أحد أفضل كثيرا من العمل كسباك في بيوت اناس يعرفونني ويحتقرون عملي..

مقالات ذات علاقة

الداليا – الحلقة الثالثة

المشرف العام

جثث خارج الطوفان

محمد دربي

أسطورة العام الجديد

الصديق بودوارة

اترك تعليق