تسرد الصحافية والروائية نهلة العربي، في روايتها “أثر الغائبين”، الصادرة عن دار السراج للنشر والتوزيع سيرة الألم وتفاصيل المرض الذى يخاف الكثيرين من مجرد ذكر اسمه ،“السرطان” المرض الوحش الذى يحل فجأة بجسد الإنسان فيزرع فيه ألم فوق تحمل الطاقة البشرية، وبالقوة والعزيمة يحارب مريضه حلوله في جسده ،وهذا ما فعلته الروائية نهلة العربي التي روت في روايتها الثانية ، قصة معايشتها للمرض الذى داهمها بغتة ،وهز كيان أسرتها الصغيرة المتكونة من زوجها وابنها آدم” الذى توجه حديثها له طيلة الرواية بضمير المتكلم فتذكره بالاسم وتصرح من خلال روايتها بأن الرواية موجهة إليه كي يقرأها ،عندما يكبر ويدرك تفاصيل معايشتها للمرض وتأثيره على علاقتها به وبوالده بكل شفافية ودون مواربة وبشجاعة سردية.
استوقفني عنوان الرواية الذي يعطى للغياب ملمح كبير ولكن لا غياب لمن يمتلك القوة والشجاعة لرواية تفاصيل الوجع والألم فالرواية هي أثر باقي ضد شراسة المرض وحضور وديمومة خالدة لا يفنيها مرض ولا غياب.
تذكر الروائية في بداية روايتها عن عزمها، رواية سيرتها الذاتية مع المرض والسيرة الذاتية كما يذكر الناقد جيرارد جينيت تحمل ثلاث سمات «مصير ذاتية حقيقية، وصيغية ،سرد استعادي على لسان المتكلم) وهذا ما نجده في رواية الروائية نهلة العربي التي تكتب روايتها بضمير المتكلم وتستعيد عبر ضمير المتكلم تفاصيل حياتها ،مع المرض خلال المدة الزمنية التي كافحت فيها المرض ومن خلالها تسرد نهلة العربي بداية تكون المرض بجسدها مخاطبة ابنها الصغير في بداية الفصل الأول من روايتها قائلة ” لا أعلم بالتحديد متى بدأ الأمر ومن غير المهم أن تعلم أنت أيضا المهم أن تعلم أنه بدأ فجأة بدون أي مقدمات، مثل انطلاقك من الميناء في قارب صغير في يوم مشمس جميل، وبعد التوغل لمسافة ليست بقريبة تغضب الطبيعة منك ويتحول يومك المشمس إلى يوم عاصف ممطر يحمل أمواجا غاضبة تصفع قاربك الصغير دون رحمة”
تصور الروائية حلول الورم السرطاني ،كعاصفة قلبت حياتها رأسا على عقب فبعد أن كانت تعيش حياة بسيطة هانئة ، وتقضى يومها في عملها الصحفي وتعود لبيتها لقضاء شئونها البيتية ومشاركة زوجها وطفلها ، في تفاصيل حياتهما اليومي ،قلب المرض مسار حياتها وجعلها عاجزة عن الحركة لفترة وجالسة على الكرسي المتحرك ،واحتاجت لمساندة من أختها وزوجة أخيها وعون زوجها وقيامها بعمليات لإزالة الورم من رأسها ،ودخولها لمرحلة العلاج الكيماوي ولكنها بعد فترة تعبها من العلاج الكيماوي قررت التوقف نهائيا عن العلاج مع استعدادها لتحمل تبعات قرارها.
وتسرد الروائية تأثير العلاج الذي امتد لشهور على نفسيتها، وكان سبب في دخولها بنوبات اكتئاب أثرت على علاقتها بزوجها وابنها، مما اضطرها للذهاب إلى بيت أهلها ثم ذهابها لدكتورة نفسية للعلاج النفسي ولكن الدواء النفسي كان له تأثير سيء على جسدها مما جعلها تقرر التخلي عن فكرة العلاج النفسي من الاكتئاب وتصف الكاتبة حالتها مع الاكتئاب قائلة
“كان القدر متجهم الوجه في نظري، وظلت بداخلي رغبة في أن أرى يوما ابتسامته، الاكتئاب كان كظلي وبرغم اختفاء الظل في العتمة، حتى في ظلام أفكاري، كان يتربص بي ويدفعني لنوبات بكاء شديدة أفقد فيها القدرة على التوقف”.
ولكنها بشجاعة تقرر العودة إلى بيت زوجها وطفلها، لاستعادة العلاقة مع طفلها وزوجها التي أصابها التوتر نتيجة المرض والغياب عنهما، ولكنها تستغرب من معاملته الغير مفهومة معها نتيجة توتره من تقلباتها النفسية التي الحقها بها المرض.
تصف الكاتبة علاقتها بزوجها وابنها بعد عودتها لبيتها، وعملها الدؤوب على التوازن النفسي كي يستمر الحب الذي جمعها بزوجها، وبعد جلسات مصارحة شجاعة وقوية، تستعيد علاقتها الجميلة به ويحلق ابنها كما تصفه كنورس، في بيتهم الذي استعاد الحب والحنان نتيجة صبرها ومقاومتها للمرض وعدم استسلامها لقوته الضارية بجسدها وروحها ونفسيتها وبمشاركة قصتها مع المصابات بالمرض وتكوين مجموعة دعم نفسي لبعضهن عبر قناة اليوتيوب التي أنشأتها لتفاصيل أصابتها بالمرض استطاعت تخطى الأثار النفسية المدمرة للمرض.
رواية نهلة العربي “أثر العابرين” هي رواية مكتوبة بعمق القلب والروح عن قصة حقيقية لكاتبتها وكان أسلوب السرد فيها بضمير المتكلم طيلة الرواية، وهو صوت البطلة التي التقطت كل التفاصيل والأحداث والشخوص وروت قصتها، بكل شفافية وبشجاعة في رسالة روائية مستقبلية لطفلها الذي تحلم بأن يقرأ روايتها ذات يوم، وهي سيرة روائية ملهمة أيضا لمحاربات السرطان اللواتي قد يجدن بالرواية الكثير من التفاصيل ،المتشابهة مع تجربتهن فسيتمدن منها القوة والصلابة وربما هي المرة الأولى في تاريخ الرواية الليبية التي تكتب فيها كاتبة روائية ليبية رواية عن تجربتها مع مرض السرطان ،بشجاعة وقوة وبدون مواربة في مواجهة مع المرض وجها لوجه عبر الكتابة ،التي تحمل في وجه من وجوهها المتعددة نوع من الدواء والعزاء لكاتبها ضد محن ونوائب الحياة والأقدار، وعلامة قوة في طريق الانتصار على المرض و آلام الحياة والأوجاع.