ترجمات

عن الحضارة والجنون بلسان: ميشال فوكو

ترجمة: د. محمد قصيبات

المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (الصورة: عن الشبكة)
المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (الصورة: عن الشبكة)

(1)

الجنونُ ظاهرة حضارية، وهي ظاهرةٌ متغيرة مثل أية أخرى من ظواهر الحضارة، في الواقع بعد قراءتي لما كتبَ الأمريكيون عن تعاملِ المجتمعاتِ البدائية مع الجنون تساءلتُ: ترى كيف تتعامل مجتمعاتنا مع هذه الظاهرة التي هي الجنون؟

(2)

ثمة حضارات احتفت بالجنون، وأخرى أبعدت مجانينها، ثم أخرى عالجتهم، ولكن ما أريد الإصرار عليه هو بالتحديد أن العلاجَ ليس هو رد الفعل الوحيد تجاه هذه الظاهرة، أظن أن بين المجانين أناسًا مثيرين للاهتمام بقدر ما هو الأمر عند الناس الطبيعيين. ليس ثمة حضارة بدون جنون… كان همي أن أدرس العلاقةَ بين الثقافةِ وتعاملها مع هذه الظاهرة… أو بمعنى آخر ردود الفعل للثقافة الكلاسيكية نحو هذا الجنون، تلك الردود التي تبدو مناقضة تمامًا لمفهوم العقلانية… تلك العقلانية التي سيطرت على القرنين السابع والثامن عشر.

(3)

أعتقد أن القرنَ السابعَ عشر يشكل نقطةَ تحول مهمةٍ، فقبل ذلك -وحتى العهد الباروكي على الأقل (1)- كان المجنون يعيش حرية مطلقة، كان وقتها يعيش على “سطح” الثقافة حيث كان يعيش على مرأى من الجميع، وكان الناسُ يقيمون للجنون الأعياد… وكان ثمة مسرحٌ للجنون، وكان للمجنونِ مكانته في الأدبِ وفي الكتابةِ، وكان هناك أيقونات وصور يرسمونها للجنون… منها أعمال “جيروم بوش”(2) و”بريجيل”(3)…

لقد هيمن موضوعُ الجنون على نهايةِ القرن السادس عشر وبداية السابع عشر مثلما هيمن هاجسُ الموتِ على الأدبِ والثقافةِ في نهايةِ القرن الرابع عشر ومطلع الخامس عشر. كان الجنونُ مهمًا ومعترفًا به بصورة رسمية في ذلك الوقت حتى أن المجانين كتبوا ونشروا (في الواقع نُشرت لهم) أعمالهم… كان من هؤلاء “بلويه دربير”… المجنون الذي نشرت أعماله على نحو واسع. كانت نصوصه مميزة بالرغم من كونها غير مفهومةٍ ومبهمة… كانت أعمالاً أدبية مسلية لقرائها رغم غموضها منها الشعرُ، والقصصُ، والرواياتُ… ثم دون كيخوته لثرفانتس… ألم تكن تلك الرواية امتدادًا لذلك الجنون في الأدب أو لأدب الجنون؟

(4)

أظن أن كل العائلات وفي مختلف الأزمنة كانت تعيش حالات من القلق عند إصابة أحدِ أفرادها بالجنون. كل قرية، كل حي، وكل مدينةٍ كان لها مجانينها يعتنون بهم ويعطونهم العلاج… أعتقد أن صورة المجنون تغيرت بعد أن أخذت العائلة بشكلها “البرجوازي” (4) مكانًا مهمًا في المجتمع، ففي القرن السابع عشر عندما تغيرت الأحوال الاقتصادية في الحياة، في عصر “المرنكنتلية” (نظام اقتصادي نشأ في أوربا خلال تفسخ الإقطاعية لتعزيز ثروة الدولة بتنظيم الاقتصاد واعتبار المعادن الثمينة ثروة الدولة الأساسية: المنهل)، بدا المجنون في ذلك العصر شخصًا كسولا واعتبر شخصية طفيلية تعتمد على مال الآخرين ولم تسهم في التنمية… هنا أصبح المجنون عالة على الآخرين.. في رأيي تغيرت نظرة المجتمع نحو المجنون بسبب تغير الحالة الاقتصادية في ذلك الوقت.

(5)

في زمننا هذا، انتزع الطبُ ظاهرة الجنون من الثقافةِ، فتحول الجنونُ إلى مرضٍ عقلي. رغم أن ذلك لم يكن صحيحًا في كل العصور، فالمجنون في القرنين السابع والثامن عشر كما رأينا لم يكن مريضًا، بل كان كائنًا “غير اجتماعي”. في ذلك الوقت سجنوا المجانين مع غير الاجتماعيين الآخرين… جمعوهم فيما عرف فيما بعد بالملاجئ.

حدث ذلك في المستشفيات العامة في فرنسا، وقد تم تشغيل “غير الاجتماعيين” في المصانع الكبيرة، حيث عملوا في صناعةِ الكتان والحبال وغيرها. كان لهؤلاء دورٌ حقيقيٌ في الحياة الاقتصادية. لقد تغير هذا وذلك لعدة أسباب (بالطبع) اقتصادية.. لقد وُجد المجانين في رفقة كل من اختلف عن أفراد المجتمع… وجدوا في حضرة كل التنابلةِ، وكل الفقراء، والشحاذين، والمتشردين، والمتحررين، والشواذ، والعاهرات وغيرهم. وعندما وجد المجتمعُ أن جمعَ كل هؤلاء في مكان واحد لا فائدة منه، حيث أن المجتمع كان في حاجة إلى أيدي عاملة، عندها فقط طردوا الجميع… الجميع باستثناء المجانين الذين بقوا في المؤسسات المغلقةِ وحدهم.

(6)

أعتقد أن أمرًا مهمًا يحدث منذ جنون نيتشه (5) ، ومنذ ريمون روسيل (6)، ومنذ جنون فان جوج (7)، وارتونان آرتو (8) على وجه الخصوص، حيث عادت نظرتنا إلى الجنون مثل تلك التي كانت عليه في القرنين الخامس والسادس عشر… أي أصبح الجنونُ ظاهرة حضارية مهمة للغاية.

فمثلما كان الجنونُ في نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر يحمل بعض الحقيقة، عادت هذه الفكرة في زمننا هذا، حيث أن الحقيقة تكاد تخرج من أفواه شخصيات تعيش على حافةِ الجنون، أو شخصيات رأت في الجنون تجربتها العميقة مثل أنطوان آرتو وريمون روسيل.

بعض الأسماء جاء التي جاء ذكرها على لسان فوكو:

1- العصر الباروكي: يقولون ذلك عن الأدب الفرنسي تحت حكم هنري الرابع (1589-1610) وكذلك لويس الثامن (1610-1643)، عرف هذا العصر بحرية كبيرة في التعبير، فكان الناس يكتبون ما يحلو لهم.

2- جيروم بوش: رسام هولندي (1450-1516) رسم العديد من الشخصيات الخيالية والرمزية.

3- بيتر بروجيل: رسام بلجيكي (1525-1569) اعتبر وريثًا للرسام بوش.

4- العائلة البرجوازية: يعني فوكو بالعائلة على شكلها البرجوازي: أصبحت البرجوازية في القرن السابع عشر الطبقة الأكثر تأثيرًا بدلا عن النبلاء الذين سيطروا قبل ذلك.

5- فردريك نيتشة: فيلسوف ألماني (1844-1900)، أُدخل مستشفى الأمراض النفسية عام 1889 ثم خرج منه واعتنت به أمه حتى موته عام 1900.

6- ريمون روسيل: كاتب فرنسي (1877-1933): كتب الشعر والمسرحية، كان مريضًا نفسيًا مصابًا بالمرض الهوسي الإكتئابي Psychose maniaco-depressif اعتبره السرياليون واحدًا منهم. مات منتحرًا بالأدوية (الباربوتيريك)

7- فانسان فان جوخ: رسام هولندي مشهور (1853-1890)، أقام في مدينة آرل في جنوب فرنسا حيث أدخل المصحة العقلية بعد مرضه عام 1888، كان مصابًا بالهلوسة. مات منتحرًا عام 1890.

8- أنتونان آرتو: كاتب فرنسي (1896-1948)، حاول في أعماله الشعرية الوصول إلى منابع الفكر العميقة. كان مريضًا نفسيًا منذ طفولته، انظم للسرياليين ثم تفرغ للمسرح. في كتابه “مراسلات” تحدث كثيرًا عن دخوله المستشفيات النفسية، وعن آلامه، وعن علاقاته بالأطباء وخاصة في” رسائل من روديز” (مدينة في الجنوب الغربي الفرنسي)، كان آرتو يرفض فكرة وجود مرض أسمه الجنون. كان أيضًا ممثلا معروفًا.


قد نلاحظ بعض التكرار في الجمل والأفكار… ذلك لأن ميشال فوكو كان يتحدث في مقابلة إذاعية مع نيكول برايس في 31 مايو 1961م.

مجلة الفصول الأربعة | العدد: 133، السنة 34، أبريل – ربيع 2022م.

مقالات ذات علاقة

الكتاب “تهمة”.. وضع الكتب والنشر في “ليبيا”

المشرف العام

ليبيا بعيون أرنولد توينبي …!!!

عطية الأوجلي

شذرات من قصائد قديمة

زكري العزابي

2 تعليقات

زينب 8 أبريل, 2024 at 11:10

رااااائع

رد
المشرف العام 9 أبريل, 2024 at 05:10

نشكر مرورك الكريم

رد

اترك تعليق